قبل أن تصل إلى قرية العكرشة، الواقعة فى منطقة أبو زعبل، فى محافظة القليوبية، يمكنك رصد كل مسببات الموت. فمصانع الحديد والزهر والرصاص التى تطوّق القرية من كل جانب لا تترك مساحة لذرة هواء نقى. ومع دخولك أول شوارعها، ستتعجب من أناس يعيشون جيرانا للموت، ليلَ نهار، وعندما تسألهم عن السر، يردون عليك بسؤال: هنروح فين؟ ويجيبون أيضا «لو خرجنا من هنا هننام فى الشارع»! اللافتة الكبيرة المعلقة فى مدخل مدينة أبو زعبل تعلن استكمال التوسعات فى محطة مياه الخانكة، لا علاقة لها بالواقع المأساوى الذى يعيشه الأهالى هناك، فالمياه تمر من أمامهم دون أن يكون لهم نصيب فيها. الأفدح من ذلك هو عدم وجود شبكات صرف صحى. وما حدث فى العكرشة، أول من أمس، ليس سوى نذير بكوارث أكبر. مآسى العكرشة وما يحيطها من قرى، عمرها أربعون عاما، عندما نزح إلى تلك الرقعة من أرض أبو زعبل، فقراء عشوائيات القاهرة ومحافظات الصعيد، بحثا عن سكن ولقمة عيش، ومن يومها عاشوا دون أن تشملهم خطط توصيل المياه أو الصرف الصحى، وهو ما نتج عنه الكارثة المعتادة. الأهالى صرفوا «صرفهم» بطريقتهم، فألقوا بمخلفات «الطرنشات» فى مصرف مائى، معروف فى الأرياف باسم «رشّاح» بمحاذاة أطراف القرية، وعلى امتدادها. القرية تطوقها من الخارج مصانع عديدة ملوِّثة للبيئة، وغير مرخصة، نحو 1000 مصنع ما بين مسابك الحديد، والزهر، والألومونيوم، والرصاص، يجاورها مصنع (18) للإنتاج الحربى. تلتقى أهل القرية فتراهم يجمعون على حقيقة تاريخية تقول إن وجودهم فى العكرشة أقدم من المصانع «إحنا جينا الأول وهمّ لحقونا، وحاوطونا بالموت». حكومات الفساد فى عهد الرئيس المخلوع قننت وضع تلك المصانع التى تنشر الموت على المحيطين بها بإصدار قرار رسمى نهاية 2008 عن وزارة التجارة والصناعة بنقل المنطقة الصناعية فى شبرا الخيمة إلى أطراف أبو زعبل. تلك الأطراف لا تعنى على أرض الواقع سوى منطقة واحدة هى «العكرشة» وعشرات القرى المنسية، التى تهتز منازلها عند تفجير قنابل الغاز داخل مصانع الحديد، ويُسمع صوتها المدوّى، كأن القنابل على الأبواب، تظلل سماءها سحب الدخان الكثيف. ما حدث أول من أمس، ليس صدفة، فقد جاء بعد امتلاء الرشاح عن آخره بمياه الصرف الصحى، مع تعطل ماكينات الرفع فى نهايته، لتخرج المياه إلى البيوت. الأهالى شكوا مِرارا للوحدة المحلية والمحافظة دون جدوى. مهنّى عبد الملاك أحد سكان المنطقة، لم يجد حلا للمياه التى تراكمت فى قطعة أرض يمتلكها، سوى إلقاء «نَقلة» رمل فوقها فى مدخل شارع «على الصعيدى». سوء حظ مهنّى وأهل قريته أوقعه فى سائق جرار يحمل أجولة من الرمال الرمادية نتيجة مخلفات المصانع، لإلقائها على أطراف القرية، فاشترى منه أجولة الرمال ليغطى بها المياه. مرت عدة أيام حتى استأجر صاحب الأرض، «سائق لودر» يدعى عمرو سيد درويش للقيام بفرش الرمال على الأرض بعد أن ظلت متراكمة لأيام، وأحدثت تفاعلا كيميائيا سريعا مع مياه الصرف. لكن السائق لم ينتبه، وعندما شرع فى تغطية المياه بالرمال لم يلتفت للفوران السريع والغاز المتصاعد من المياه برائحة كريهة، وفى أقل من دقيقة واحدة كانت رأس السائق قد مالت وخرج الدم من أنفه وفمه، ثم لقى مصرعه على الفور. ولأن الموت والفقر لا يفرّقان بين مسلم ومسيحى فإن أول من هرع لإنقاذ عمرو، هو عز ظريف حنا، رب أسرة، لديه خمسة أولاد، أصغرهم طفل عمره خمسة أشهر، يسكن فى المنزل المجاور، لموقع الحادثة، كان يتابعه من شرفة منزله، فهرع هو وعدد من أبنائه وزوجته لإنقاذ السائق. وقبل أن يصل إليه، سقط فى الحال، جراء الاختناق بالغاز السام، فأسرعت زوجته سماح تادروس، لإنقاذه، فلاقت نفس مصيره. وبعدها هيثم، الشقيق الأصغر لزوجها. تعثر «فكيهة»، أم عز وسقوطها على الأرض وهى تحاول اللحاق بأولادها، كتب لها النجاة من غازات الموت، لكنها لا تزال فى حالة شديدة الخطورة فى غرفة الرعاية المركزة فى مستشفى الدمرداش تعانى من تسمم حاد وتشوهات فى الرئة. فضلا عن 23 حالة إصابة بغيبوبة وتشنجات لشباب القرية ممن هرولوا لإنقاذ السائق وأسرة عز، وهم محصنون كعادتهم فى مثل تلك الحوادث، بشربة لبن وقطعة قماش مبللة بالماء، حتى تمكنوا فى ثلث ساعة، من ربط المتوفين بحبال وجرهم بعربة إلى خارج المنطقة المسممة. لم تتضح بعد طبيعة «خلطة الموت» التى داهمت أهالى القرية، الذين طالما جاوروا ذلك الموت طويلا، وانتظروه وهم يعلمون أنه قادم إليهم لا محالة. ولا يثقون بالأجهزة الرسمية التى كثيرا ما وعدتهم بحلول، ماتوا ولم يروها. حتى نواب الشعب المنتخبين منذ أيام لم يعيروا الأزمة اهتماما من حزبى الحرية والعدالة والنور، ولم يحضر أى منهم بالطبع جنازة السائق عمرو، ولا «قدّاس العذاب» الذى شهدته كنيسة السيدة العذراء فى وداع أسرة عز. وبالمناسبة فإن رياض الجندى العضو السابق فى الحزب الوطنى المنحل، هو صاحب أحد مصانع الموت فى المنطقة. حاولنا الحصول على عينة من التربة الملوثة، لكن فوجئنا بإغلاق الشارع بشكل كامل وردمه بالحجارة والرمال الصفراء. مشهد سبق أن تكرر بالنص. هى نفس الحجارة التى تمت تغطية جثث ضحايا انهيار جبل الدويقة بها.