تمر فى الثامن والعشرين من هذا الشهر مئة سنة على اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهى الحرب التى تركت أثرها ممتدا طوال القرن الذى تلاها، وكان للمنطقة العربية حظ تعيس وافر من نتائج هذه الحرب أكثر من أى منطقة أخرى فى العالم، والأسوأ أن تداعيات هذه الحرب التى لم تكن للعرب ناقة فيها ولا جمل ما زالت تتفاعل وتفرز نتائجها المدمرة على شعوب المنطقة، ففى تلك الحرب وأحد أسبابها الحقيقية التنافس على المستعمرات، حيث كانت ألمانيا تأمل فى توسيع مستعمراتها الهزيلة فى شرق وغرب إفريقيا، وقد أقلقها أن بريطانياوفرنسا قد ظفرتا باقتسام الغنائم والسيطرة على أغنى المستعمرات التى تمثل للدول الصناعية المورد الأساسى للمواد الخام الرخيصة والأسواق المهمة لتصريف المنتجات، وكانت بريطانياوفرنسا تفطنان لهذا، وفى إطار سعيهما للتمدد فى المستعمرات وعدم تضارب المصالح أقيم اتفاق سرى بينهما بتفاهم مع الإمبراطورية الروسية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنساوبريطانيا، لترتيب مناطق النفوذ فى غرب آسيا مع غروب شمس الإمبراطورية العثمانية التى تتهيأ للسقوط نهائيا مع انتهاء الحرب، وقد كرست الاتفاقية التى عرفت باسم «سايكس بيكو» للتقسيم الذى عصف بالتكوين التاريخى للمنطقة، استلهاما للنهج الاستعمارى فى تفتيت الكيانات السياسية، وتحديدا تلك التى تمتلك مقومات للوحدة وبناء دولى كبير مثلما هو الوضع بالنسبة إلى العرب فى هذا الإقليم. وفى خطوة تالية فى أثناء الحرب العالمية الأولى وردا للجميل من الحكومة البريطانية لدوائر المال اليهودية التى ساندت بإقراض خزينة المملكة المتحدة لمواجهة تكاليف الحرب قامت لندن فى هذه الظروف تحت وطأة ضغوط الحرب بإعلان وعد بلفور عام 1917 الذى تتعهد فيه حكومة بريطانيا رسميا فى خطاب من وزير الخارجية بلفور إلى رجل المال وأحد زعامات الصهيونية اللورد روتشيلد، جاء فيه «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى فى فلسطين للشعب اليهودى، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية»، وهكذا تم تسريع الخطة البريطانية المعدة سلفا من أجل تحقيق الهدف الإمبريالى الثابت الذى بدأ منذ عهد بالمرستون، رئيس وزراء بريطانيا، الذى دعا عام 1839 إلى زرع كيان يهودى استيطانى فى فلسطين، ليشكل حاجزًا بين مصر والمشرق العربى، وكى يكون حائط صد ضد التحرر والوحدة العربية، تلك السياسة تبناها جميع قادة الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية منذ بالمرستون، واللافت أن هذا الوعد الذى قطع ممن لا يملك لمن لا يستحق كان فى وقت تبلغ فيه نسبة اليهود فى فلسطين أقل قليلا من 5%. لم تنج مصر التى كانت تحت الاحتلال البريطانى بسبب هذا الاحتلال من تعرضها للضرر فى أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث قامت الدولة العثمانية بتحريض من حليفتها ألمانيا بمهاجمة بريطانيا فى مصر، والعمل على إغلاق قناة السويس لإعاقة وصول الإمدادات من مستعمراتها فى الهند وأستراليا، وكان الجيش العثمانى المنوط به تنفيذ هذه المهمة يتمركز فى مدينة القدس تحت قيادة وزير البحرية العثمانى أحمد جمال باشا، وكان يتولى منصب رئيس أركان الجيش العثمانى فى هذه الحملة عقيد من الجيش الألمانى قام بالتخطيط للهجوم على مصر، واستطاع الحصول على بعض التجهيزات والتعيينات فى أثناء عبور القوات العثمانية لصحراء سيناء، وقبيل اندلاع المواجهة بين الإمبراطوريتين فوق الأرض المصرية قامت بريطانيا بعدة إجراءات تعسفية تهدف إلى قطع الصلة بين تركيا ومصر، تحسبا لاحتمال تعاطف الشعب المصرى مع الجيش العثمانى المهاجم، فقامت بخلع الخديو عباس حلمى الثانى، وعينت بدلاً منه عمه حسين كامل، وأعلنت الأحكام العرفية وسخرت موارد الدولة المصرية فى خدمة قواتها العسكرية فى مصر، ما كبد المصريين خسائر مادية ومعنوية كثيرة، ورغم أن الحملة العثمانية فشلت فشلا سريعا فى تحقيق أهدافها بالاستيلاء على قناة السويس لضعف قواتها وسوء التسليح والتدريب، إلا أن القوات البريطانية استمرت فى التضييق على المصريين ونهب مواردهم. اليوم بعد مرور 100 سنة على الحرب العالمية الأولى يتضح أنها كانت حربا أهلية أوروبية بين فرقاء يتنافسون على كعكة المستعمرات والاستيلاء على أسواق جديدة، وفى سبيل هذه الأهداف ذاقت البشرية الويلات، وانتتشر الدمار وسقطت الضحايا وتفشت المجاعات فى جميع أنحاء العالم، بسبب أطماع الأوروبيين غير الشرعية، ولهاثهم وراء مصالح ومكاسب تتسم بالأنانية دون اعتبار لمصالح الشعوب المغلوبة على أمرها، لقد كانت هذه الحرب عالمية فعلا إذ بلغ عدد الدول المشاركة فيها 28 دولة من أطراف النزاع، واشتعلت وقائعها على امتداد واسع لمسارح العمليات، ووصل عددها إلى 12 مسرحا، كما شملت أعمال القتال 3 قارات هى أوروبا وإفريقيا وآسيا وكل المحيطات والبحار الرئيسية، كما تواصلت العمليات الحربية على مدار 51 شهرا دون أى انقطاع، وفى خلال هذه الحرب انخرط ما يزيد على 90% من سكان الكرة الأرضية فيها كان من بينهم العرب جميعا سواء بالقتال المباشر أو أشكال المجهود الحربى على اختلافها أو التعرض لآثارها.