الاتحاد: 15/5/2008 يمر اليوم ستون عاماً على إعلان قيام إسرائيل. لكن هذا اليوم، الذي استولت فيه الحركة الصهيونية على أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين، كان محصلة عمل متواصل امتد عدة عقود. ويجوز أن نعيد بدايته إلى قرن كامل قبل 15 مايو 1948. لم تكن الصهيونية قد ظهرت بوضوح بعد، ولا الحركة التي قامت على أساسها قد تبلورت بشكل كامل. كان ثمة حلم غائم لدى قليل من اليهود الأوروبيين أصحاب النفوذ المالي والمصرفي الكبير، في منتصف القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم البارون أدمون روتشيلد، وشاركهم في ذلك بعض أصدقائهم المرتبطين معهم بمصالح، وفى مقدمتهم اللورد شافتسبري. وتصادف أن شافتسبري القريب جداً إلى روتشيلد، كان صهراً لرئيس الوزراء البريطاني اللورد بالمرستون الذي كان مهتماً بمنطقة المشرق العربي ومهموما بكيفية منع مصر من الوصول إليها مرة أخرى. وكان ذلك بعد إخراج قوات محمد علي منها عام 1840 وضرب مشروعه الذي استهدف بناء دولة عربية كبيرة تجمع وادي النيل والجزيرة العربية وشرق المتوسط. القراءة الاختزالية للتاريخ، جزء من "أدلجة" الصراع ضد إسرائيل، وتحويله إلى رافعة لمشروع قومي عربي أو آخر إسلامي يقوده "الإخوان" وإيران! وظهرت في ذلك الوقت فكرة "عودة" اليهود إلى فلسطين، ليكونوا سنداً للإمبراطورية البريطانية التي طردت محمد علي من الشام لكنها تركت وراءه فراغاً في المنطقة لم يملأه أحد. وكان هذا ما قاله البارون روتشيلد لرئيس الوزراء بالمرستون خلال لقاء جمعهما فيه اللورد شافتسبري عام 1949. وفى هذه المقابلة ظهر للمرة الأولى تعبير "وطن قومي لليهود" على لسان روتشيلد، وهو يسعى إلى إقناع بالمرستون بضرورة الاعتماد على اليهود وبالتالي "إعادتهم" إلى "وطنهم التاريخي". تحدث الثري اليهودي عن الفراغ في بلاد الشام بعد إخراج القوات المصرية منها، وما يحمله هذا الفراغ من نذر فوضى خطيرة. واقترح إيجاد "وطن قومي لليهود" لخلق ما أسماه قوة ديناميكية قادرة على ضبط الأمور في إطار المصالح البريطانية وحماية هذه المصالح من أي تهديد. وتعتبر هذه هي اللبنة الأولى في البناء الذي تواصل العمل فيه على مدى عدة عقود قبل أن يحمل اسم "الحركة الصهيونية" في نهاية القرن التاسع عشر، ويؤدي إلى إعلان قيام إسرائيل، في مثل هذا اليوم قبل 60 عاماً. ووضع تلك اللبنة يهود متحمسون بمساعدة مسيحيين يؤمنون بما أصبح يطلق عليه "المسيحية الصهيونية"، أي المسيحيون الذين يؤمنون بأن اليهود لابد أن يعودوا إلى "أرض الميعاد" التي سيبُعث فيها المسيح مجدداً حسب عقيدتهم. وكان أولهم اللورد شافتسبري، وتبعه آخرون ومنهم مارك سايكس ممثل بريطانيا في الاتفاق المشهور لتقسيم المنطقة بينها وبين فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، وهو اتفاق "سايكس -بيكو". وكان ذلك الاتفاق إحدى المحطات الرئيسية في تاريخ المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين. يقول لنا هذا التاريخ إن إسرائيل لم تكن مجرد مشروع استعماري أوروبي، ثم إمبريالي أميركي، وإن اليهود لم يكونوا مجرد أداة استخدمها الاستعمار البريطاني لدعم مصالحه. فقد كان هذا أحد أبعاد المشروع الصهيوني، وليس البُعد الوحيد فيه. فقد قام هذا المشروع على حلم صهيوني بدأ غائماً، ثم تبلور بسرعة من خلال التفاعل بين الحالمين به والاستعمار البريطاني. وتفيد قراءة تاريخ القرن السابق على 15 مايو 1948، أن نجاح المشروع الصهيوني يعود، مثل كل شيء، إلى مثابرة اليهود الذين وضعوا اللبنات الأولى وجهدهم الوفير وعملهم الدؤوب وإصرارهم المدهش. ولولا هذا كله، ما وجد مشروعهم دعما بريطانياً قوياً حوّله إلى مشروع صهيوني استعماري مشترك. غير أن الاتجاه العربي الغالب في قراءة ذلك التاريخ، مازال ينفر من هذه الحقيقة، ويصر على أن إسرائيل ليست أكثر من مشروع استعماري فكّر فيه وخطط له ونفذه المستعمرون الأوروبيون، ودعمه بعدهم الإمبرياليون الأميركيون. وتؤدي هذه القراءة المبتسرة وظيفة معينة لأصحابها. فهي تعني في النهاية أن ما حدث في مثل هذا اليوم قبل 60 عاماً نتج عن مؤامرة استعمارية كبرى، وأن هذه المؤامرة متواصلة بلا نهاية. فمادام المشروع الصهيوني استعمارياً في الأساس، وطالما أن الصراع هو ضد القوى الاستعمارية ثم الإمبريالية و"العولمية" الآن، تصبح فلسطين قضية عربية- قومية أو إسلامية أو كلتيهما، ولا يمكن أن تكون قضية فلسطينية في المقام الأول. ويغدو الصراع، بالتالي، قومياً أو إسلامياً أو مزيجاً منهما تخوضه الأمة كلها (عربية أو إسلامية أو كلتاهما)، وليس صراعاً وطنياً تحررياً يخوضه الشعب الفلسطيني بمساندة عربية وإسلامية. فالقراءة الاختزالية للتاريخ هي، إذن وعلى هذا النحو، جزء من عملية "أدلجة" طبيعة الصراع ضد إسرائيل وتحويله إلى رافعة لمشروع قومي عربي أو آخر أو لمشروع إسلامي قد يقوده "الإخوان المسلمون" أو قد تتزعمه "إيران"، وذلك على حساب مشروع التحرر الوطني الفلسطيني. وتأبى هذه القراءة الاختزالية التي فرضت نفسها على أجيال متوالية من العرب، إلا أن تتواصل في الذكرى الستين للنكبة بدلاً من أن تكون هذه مناسبة لإعادة قراءة التاريخ الذي اُختزل واستيعاب دروسه. وما زال بعض أنصار هذه القراءة مستعدين للذود عنها بكل ما يستطيعونه، على نحو ما ظهر في بعض الحوارات التي بدأت قبل أسابيع قليلة في مناسبة ذكرى النكبة. ووصل الأمر، في إحدى الحالات، إلى حد إنكار وقائع تاريخية ثابتة أو إهالة التراب عليها جهاراً نهاراً وعلى مرأى ومسمع من الملايين في ندوة منقولة على الهواء. ففي هذه الندوة، أصر الكاتب والمؤرخ الفلسطيني الدكتور بشير نافع على أن رواد الصهيونية اليهود في القرن التاسع عشر كانوا "أولاداً" لا قيمة لهم ولا وزن لدورهم، وأنهم بالتالي مجرد أدوات تم توظيفهم في مخطط استعماري كبير. ويقول لنا التاريخ، هنا، إن بعضهم كانوا رواداً بمعنى الكلمة، وإن فكرة "إعادة" اليهود إلى فلسطين نبعت منهم وأنهم بذلوا جهداً كبيراً لإقناع بريطانيا العظمى بها. كما يقول لنا إنهم هم الذين سعوا إلى أن يكونوا أدوات لدى الاستعمار، لكن لخدمة مشروعهم في المقام الأول، وأنهم نجحوا في ربط هذا المشروع بالخطط الاستعمارية. وهذا كله كان يستدعي عملاً منظماً وإدراكاً عميقاً للوضع الدولي ومتغيراته، وإبداعاً في خلق الآليات اللازمة لتحقيق أفضل استثمار ممكن لعلاقاتهم مع القوى الاستعمارية. لكن الأكثر إثارة للقلق على حالة قسم كبير من العقل العربي، فيما يتعلق بقراءة تاريخ الصهيونية، هو إنكار وقائع تاريخية يقينية لا شك فيها ولا شبهة، ومسجلة ليس فقط في عدد كبير من الروايات التاريخية ولكن أيضاً في الوثائق البريطانية. وبلغ هذا الإنكار مبلغاً لا سابق له، عندما أصر الدكتور نافع في الندوة نفسها على إنكار ليس فقط دور البارون روتشيلد في إقناع بالمرستون بفكرة الوطن القومي لليهود، ولكن أيضاً على نفي وجود هذا البارون من حيث الأصل! فلا يعرف بشير نافع، أو لا يريد بالأحرى أن يعرف، دوراً لعائلة روتشيلد في المشروع الصهيوني قبل العقد الثاني من القرن العشرين، أي بعد أن تنامى هذا المشروع على الأرض عبر هجرات جماعية يهودية منظمة ضاعفت عدد اليهود في فلسطين عدة مرات. والمذهل في ذلك أن المنكور هذه المرة علم بارز في تاريخ العمل اليهودي الذي أسس للحركة الصهيونية على المستويين السياسي والمالي. وهذا المنكور اقترن اسمه بعشرات الأحداث الكبرى غير العادية في ذلك التاريخ، منذ أن تعاون مع شافتسبري في إقناع الحكومة البريطانية بتوطين اليهود في فلسطين، وإلى أن وفر السيولة المالية اللازمة لكي تشتري بريطانيا حصة مصر في قناة السويس، وصولاً إلى القيام بتنظيم أول هجرة يهودية إلى فلسطين عام 1882، والمساهمة في تمويل إنشاء أكثر من 20 مستوطنة خلال عشر سنوات، إلى غير ذلك مما لم يكن ممكناً للمشروع الصهيوني أن يصبح بدونه مشروعاً. هذا البارون الذي ملأ تاريخ النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم يكن موجوداً من أصله عند الدكتور بشير نافع، ليس لأنه غير قادر على معرفة التاريخ ولكن لأنه يعبر عن اتجاه اختزالي في قراءة هذا التاريخ يعمد منذ وقت طويل إلى قراءة ما ينسجم مع الصورة التي رسمها في عقله، أو في خياله، للحركة الصهيونية وعلاقتها بالاستعمار، ويصر على استبعاد كل ما لا يتسق مع هذه الصورة. وتظل فلسطين وقضيتها هي الضحية بعد 60 عاماً على النكبة.