لا أكتب هنا بالطبع عن «عبد المعبود» صاحب محلات البن الشهيرة، وإن كانت قهوة الصباح تعنى إلى أمثالى كثيرا، لكننى أودّ أن أشارككم فى خاطرة داهمتنى وأنا أتناول قهوتى قبل كتابة هذه السطور. ما الذى دفع المصريين إلى إطلاق اسم مثل «عبد المعبود» على أبنائهم؟ المصريون كغيرهم من الشعوب تشى أسماؤهم الدينية المركَّبة بانتمائهم العقائدى، خادم آمون، عبد المسيح، عبد الواحد، وكلها أسماء يمكنك أن تعرف ديانة أصحابها فور الاستماع إليها. إلا عبد المعبود! هو اسم يشى بأن صاحبه يعبد معبودا ما، لكنه لا يحدّد لك مَن هو ذلك المعبود! أعرف بالطبع أن هذا الاسم اكتسب هُوية إسلامية منذ القدم، لكن هذا لا يمنع أنه لا يحدد هوية صاحبه الدينية. فى مصر القديمة، وفى اليونان القديمة كذلك، كانت المدن تتبع إلها حارسا يحميها، منف كانت مركزا لعبادة الإله بتاح، وطيبة تعبد آمون، وتل بسطة معبودتها القطة باستيت، وأثينا حارستها الإلهة أثينا، وساموس ترعاها الإلهة هيرا، وهكذا يظل لكل مدينة معبودها، ويطلق مواطنوها بعض الأسماء على مواليدهم لتنسبهم إلى معبودهم الحامى. هذا عبد حابى، وهذه خادمة هيرا، وغيرهما. كل مولود منهم يمنحه أهله اسما يعلن به عن خضوعه لإله يقدِّسونه.. إلا اسم عبد المعبود الذى أكاد أشك أنه ينحدر من اسم فرعونى تم نحته فى عصور انهيار الدولة، بقصد أن لا يفصح عن الخضوع لإله محدد، ربما لكى يمنح حامله فرصة للتنصل من التبعية لإله بعينه، لكى يسهل له الالتجاء إلى إله آخر وقت سقوط مدينته تحت أقدام الغزاة! أنتظر هنا أن يفتينا المتخصصون فى علوم المصريات برأى قاطع، قد يقول قائل وماذا عن عبد الإله وعبد الرب؟ الإجابة أنهما صورة مماثلة بالتأكيد لعدم التحديد، ولكنهما يختلفان عن عبد المعبود فى أن كلمتى «إله» و«رب» تقطعان بعبادة ليست لمخلوق، لكن كلمة المعبود فضفاضة وتتسع لأكثر من هذا. يمكنك أن تقول عن فنانة ما بأنها «معبودة الجماهير»، لكن لا يمكنك أن تقول بأنها «إلهة الجماهير». المعنى الأكبر والأشمل وراء هذه الخاطرة أن الناس فى عصور الخوف يُفضِّلون البقاء فى مساحة رمادية تحمى أصحابها من البطش الذى قد يتعرض له من يجاهر بالوقوف تحت بقعة ضوء كاشفة. خذ عندك عينة من أقوال الناس الآن فى الطرقات، وعلى صفحات الجرائد، وشاشات الفضائيات، وستفهم تماما نظرية عبد المعبود: «أنا مع أن يحكمنا رجل عسكرى قوى فى هذه المرحلة لأنه سيحمينا لكننى مع الدولة المدنية»، «أنا ضد الاستبداد لكنه ضرورة لكى لا ينفرط عقد الدولة»، «أنا مع دولة القانون العادلة لكن لا بد من تقييد الحريات خلال هذه المرحلة الحرجة»، «أنا مع حرية الرأى لكن لا بد من تكميم الأفواه وقت الخطر». المساحات الرمادية تجعل صاحبها يحيا فى راحة مدهشة، لأنها تمنحه القدرة على أن يؤمن بالشىء ونقيضه فى ذات الوقت. المساحات الرمادية تجعل عبد المعبود يقف قائلا لكاهن أى معبد بثقة مذهلة: «أنا عبد المعبود الذى يعبد معبودكم أيا مَن كان!».