أثبتت تجربة عام كامل تقريبا من الثورة أن الجزء الأسهل فيها كان التخلص من الديكتاتور المخلوع مبارك وإنهاء مشروع التوريث، بينما تبقى الجزء الأكثر صعوبة بكثير وهو تغيير النظام، لتصبح مصر دولة مدنية ديمقراطية بالفعل تحترم حقوق مواطنيها، دولة يخضع كل مسؤوليها للمساءلة والمحاسبة، مدنيين وعسكريين. والخلافات الحادة والعميقة التى باعدت بين الفرقاء السياسيين على مدى العام الماضى، تؤكد أن المعركة هى فى مواجهة ثقافة سياسية واجتماعية تهيمن على مصر على مدى العقود الستة الماضية، وتحديدا منذ أن قام شباب العسكر فى عام 1952 بالإطاحة بالملكية. منذ ذلك الوقت يرى العسكر أنهم يمتلكون هذه الأمة، فهم الذين قادوا الثورة وبنوا مصر الحديثة وضحوا بأرواحهم للحفاظ على أراضيها فى حروب متتالية فى مواجهة العدو الإسرائيلى. وبالتالى، فهم وحدهم الذين يقررون مصيرها ومستقبلها. ثقافة العسكر لا تؤمن بالديمقراطية، ولا تثق فى الشعب، بل تقوم على ضرورة إجماع كل مواطنى الأمة على رأى واحد، بحيث يعتبر المخالفون لذلك الرأى خونة ومنشقين وعملاء للخارج. فهم يعلمون ما لا نعلم، ويرون أن الجماهير يمكن خداعها ودفعها فى اتجاهات ضد مصلحة الأمة، كما يحددونها، وبالتالى فلا توجد ضرورة لانتخابات أو استفتاءات من الأساس. وإذا تم السماح بدرجة ما من المشاركة السياسية، فإنها يجب أن تكون مقيدة ومحدودة. كما أن الثقافة العسكرية قدست دور الزعيم القائد، الذى لا تجوز مساءلته، وكلهم كنا نفديهم بالروح والدم، عبد الناصر والسادات ومبارك. ومن هذا المنطلق، فإن قائد الأمة لا يجوز بالطبع أن تكون هناك قوانين تحد من طول فترة بقائه فى الحكم. فالرئيس الراحل عبد الناصر كان قائدا للأمة العربية بأكملها، وليس فقط مصر، وبالتالى كان من المحال أساسا التفكير فى بديل له يتم اختياره عبر صناديق الانتخاب. أما الرئيس السادات، الذى كان لا بد أن يحاول التماشى مع نجوميته فى الغرب، وتحديدا الولاياتالمتحدة، بإدخال تعديلات ديمقراطية شكلية، فلقد كان نفسه قصيرا، واستشاط غضبا عندما مارست المعارضة دورها الحقيقى وحاولت مساءلته، وكانت النتيجة أن عصف السادات بكل معارضيه فى ليلة واحدة قبل اغتياله بشهر، كما غير الدستور لينص على أنه يحق للرئيس البقاء فى كرسيه لمدد غير محددة. أما المخلوع فلم يعتقد أحد أنه سيتم الارتقاء به لمرتبة الزعيم، خصوصا أنه خدع الجميع فى بداية حكمه ببساطته وصرامته، بل وتصريحه العلنى أن غاية المنى بالنسبة إليه، بعد فترة خدمة طويلة فى القوات المسلحة، هو أن يتم تعيينه سفيرا فى بريطانيا. ولكن النظام العسكرى القائم والمتحكم فى مقدرات البلاد وأجهزة الدولة الشمولية وعلى رأسها وسائل الإعلام، سرعان ما وضعت المخلوع فى قالب الزعيم، وذلك لأنها لم تعتد وتفقه سوى تقديس الفرعون. وكما كل من سبقوه فى تولى المنصب، لم يكن مبارك يعتد أو يحترم أى قوانين أو دساتير، فالدستور هو مجرد وثيقة يمكن تعديلها وتغييرها وقت ما يشاء. والجميع يتذكر أن مبارك كان يرفض لسنوات طويلة إدخال أى تعديلات على الدستور، قائلا إن ذلك سيثير الكثير من المشكلات وعدم الاستقرار، نتيجة للخلافات القائمة بين المصريين على عدة قضايا شديدة الحساسية، من بينها هوية الوطن ونظامه السياسى. والتعديلات الوحيدة التى قبلها بعد ذلك كانت تهدف لضمان استمراره فى الحكم بشكل دستورى، ولانتقال السلطة لابنه جمال بعد رحيله. هذه الخلفية هى التى تتحكم الآن فى أصعب المعارك التى من المتوقع أن نخوضها فى عامنا الجديد، 2012، وتحديدا انتخاب رئيس مصر المقبل، وصياغة الدستور. بعض فقهاء الدستور قالوا فى وسائل الإعلام إن لديهم دساتير جاهزة فى أدراج مكاتبهم، يمكن أن ينتهوا من إعدادها فى أسبوعين، وتقريبا كل حزب أو جماعة لديها مجموعة عمل أعدت مشروع دستور. هذه الاستهانة بالوثيقة التى من المفترض أن تحكم مصر لسنوات طويلة مقبلة هى نتاج ثقافة العسكر السائدة منذ ستة عقود. وما يزيد الموقف صعوبة بالتأكيد، الفهم السائد لدى الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسى على أن الدستور المقبل سيكون وسيلتهم نحو إقامة الدولة الإسلامية التى يحلمون بها كخطوة نحو استعادة مجد الخلافة الإسلامية. وما زلت أتذكر جيدا ما قالته لى رئيسة تشيلى السابقة ميشيل باشليه، فى مقابلة صحفية حول أهمية استغراق الوقت الكافى فى صياغة الدستور مع الانتقال من نظم الحكم العسكرية إلى النظام الديمقراطى المدنى، كما كانت الحال فى بلادها بعد الإطاحة بالديكتاتور أوجوستو بينوشيه، حيث استغرق إعداد الدستور ثلاث سنوات، وأستبعد تماما أن يحدث هذا فى مصر، حيث لا يزال التركيز الأكبر هو على معركة الرئاسة، إيمانا بأن الرئيس المقبل هو من سيعيد الاستقرار إلى البلاد ويملأ المقعد الشاغر للزعيم القائد. وفى هذا المجال، فإن الكلمة الفصل ستكون للمؤسسة العسكرية المهيمنة على مقادير البلاد، التى أنتجت، ولا تزال تنتج، كل من يتولون المناصب القيادية فى البلاد من رؤساء ومحافظين ورؤساء مدن ومديرى شركات القطاع العام، بل ووزير الإعلام. نعم نريد أن ينسحب العسكر من السلطة فى أسرع وقت ممكن، وأن ينفذوا وعدهم الأصلى بالعودة إلى ثكناتهم خلال عام، وهو الوعد الذى لم يتحقق. ولكن لا يجب أن يعنى ذلك التعجل فى عقد الانتخابات الرئاسية بأى شروط، الذى بلغ درجة أن يطالب البعض بعقدها فى الذكرى الأولى من الثورة، أى خلال أقل من شهر. فبسبب ثقافة العسكر السائدة، من المؤكد أن المعركة لن تكون سهلة للاتفاق على صلاحيات الرئيس وحدودها، وسيبقى الباب دائما مفتوحا للمفاجآت. وإذا كانت القوى السياسية قد اتفقت فى وقت سابق على تحديد يونيو من العام الجديد موعدا لانتخابات الرئاسة، فليكن كذلك، ولكن مع التمسك بشكل قاطع أننا كمصريين، وبعد أول انتفاضة شعبية فى تاريخنا الحديث، لن نسمح بخلق فرعون جديد.