باتت التنمية الاقتصادية، حسب ما تكشف عنه أى قراءة متعمقة فى اتجاهات الرأى العام المصرى على أعتاب الانتخابات الرئاسية، أحد التحديات الكبرى أمام شرعية أى نظام سياسى سيتأسس فى مصر بعد التحولات المتسارعة فى البناء السياسى للبلاد منذ 25 يناير 2011. تحدى التنمية ليس آنيا أو حديثا، ولا ينبع من مجرد معطيات السياق السياسى/الأمنى شديد الاضطراب، الذى تعانى منه البلاد منذ 25 يناير 2011. لقد أخفقت تجارب التنمية فى مصر جميعا منذ عهد محمد على فى مطلع القرن التاسع عشر، فى تأسيس نمط تنموى مستقر ومستديم ومتنام قادر على التطور وإصلاح أى خلل يعتوره، فضلا عن أن يلبى الاحتياجات المجتمعية الحقيقية للمصريين ويحظى بالتالى بحاضنة شعبية تستفيد منه وتدعم استمراره. يمكن تبين ثلاث معضلات رئيسية تقف وراء إخفاقات التنمية المتوالية فى التاريخ المصرى الحديث، ويمثل الوعى بتلك المعضلات الثلاث شرطا أساسيا لتطوير أى مشروع تنموى حقيقى يمكنه تجاوز عوامل الإخفاق المؤسسة، ويوفر إحدى ركائز الاستقرار الحقيقى فى مصر. أولى هذه المعضلات احتكار مؤسسات الدولة، التى شهدت طوال التاريخ السياسى الحديث لمصر، حتى الآن، أدنى درجات المشاركة الشعبية فى صنع قراراتها، الدور الرئيسى فى تحديد غايات التنمية وأدواتها ومجالاتها، بل والمستفيدون من عوائدها. ورغم ما بدا من نجاح مبدئى فى تجربة محمد على والتجربة الناصرية من خلال إدارة الدولة عملية التنمية بشكل مباشر، فإن تغييب الجماهير عن أن تكون طرفا رئيسيا فى صنع التجربتين أدى إلى انهيارهما بعد غياب القيادة التى تبنتهما. أما مرحلة ما يعرف بالحقبة الليبرالية «1923-1952»، ومرحلة ما بعد الانفتاح الاقتصادى عام 1974 وبدء التعددية الحزبية «الشكلية» عام 1976، فقد تميزت تجاربهما التنموية بأنها تأسست حول تحالف نخبوى مغلق عمل على احتكار جُل عوائد التنمية لمصلحته وتهميش قطاعات واسعة من المشاركة العادلة فى اقتسام هذه العوائد، مما انتهى فى كلتا الحالتين بثورة شعبية. وبالتالى، فإنه من دون مأسَسَة المشاركة الشعبية فى صنع أى برنامج تنموى وتحديد غاياته وتقييم آلياته ونتائجه، لا يمكن لأى جهد تنموى مستقبلى فى مصر أن ينجح، فضلا عن أن يكون مستديما. المعضلة الثانية هى هيمنة منطق «عدالة الإشباع» على مبدأى «عدالة التوزيع» و«تحرير الفرد»، منذ ثورة 1952. خلال الحقبة الناصرية، أضحت غاية دور الدولة التنموى توفير أكبر قدر ممكن من الإشباع المتساوى بين مختلف الأفراد فى المجتمع، عبر قيام الدولة بالإنتاج والتوزيع. إلا أن هذا الدور انتهى بإخفاق فى تحقيق رضا شعبى حقيقى ب«مقننات» الإشباع الحكومية، إضافة إلى إهدار فرص تنموية حقيقية نتيجة تغييب الدور الفردى لمصلحة الدور الحكومى المحدود والقاصر بطبيعته سواء فى ما يتعلق بجمع المعلومات الكاملة، أو الاستغلال المتزامن والمتكامل لمختلف قدرات الدولة على اتساع إقليمها، مما غيب التنمية عن كثير من مناطق البلاد. وفى مرحلة ما بعد عبد الناصر، تخلت الدولة عن جزء كبير من المسؤولية عن قرارات الإنتاج والتوزيع، إلا أنها لم تطور فى المقابل قدرات تنظيمية حقيقية لإدارة التفاعلات الفردية وتعزيزها، بل عززت فى المقابل الاحتكارات وحمت الفساد، وحافظت بالتالى على نمط تنموى قيّد المشاركة الحقيقية لمختلف المصريين فى صنع قرارات التنمية والنهوض بمهامها، فضلا عن الاستفادة من عوائدها. فجر هذا العجز الحكومى عن الوفاء بمهمتها الرئيسية التى تبنتها وهى «عدالة الإشباع» رفضا شعبيا واسعا لهذه الدولة عبر نموذجيها المشار إليهما. يُعدّ التحول نحو تبنى «عدالة التوزيع» شرطا لنجاح أى مشروع تنموى فى المستقبل. ولا تقتصر «عدالة التوزيع» على ضمان توزيع عادل لعوائد التنمية، لكن يسبق ذلك، ويؤسس له، نهوض الدولة بدورها فى ضمان عدالة توزيع القدرات التنموية، من خلال توفير البنية الأساسية اللازمة لتنمية مختلف المناطق فى البلاد، والإطلاق المنصف لقدرات الأفراد على استغلال مختلف مقدرات الدولة، وحمايتهم من الآثار السلبية للاحتكارات واستغلال النفوذ. المعضلة الثالثة تتمثل فى عدم توازن الارتباط بين متطلبات التنمية الداخلية وسياسة مصر الخارجية. ونلمح فى هذا السياق نموذجين صبغا تلك العلاقة وكان كلاهما له تأثير سلبى للغاية: أولهما يبرز فى ظل محمد على وعبد الناصر، حيث تبنت مصر سياسة خارجية توسعية ونشطة للغاية بما يتجاوز القدرات الاقتصادية للدولة على الوفاء بتكاليفها، فضلا عن أن عوائد تلك السياسة الخارجية كانت غالبا لا تصب فى دعم التنمية الاقتصادية فى الداخل. وكان من نتيجة هذا النموذج انهيار خطير فى كلا الجانبين: السياسة الخارجية والتنمية الداخلية. النموذج الآخر، هو نموذج تقييد السياسة الخارجية بدوائر محدودة بما يضمن مصالح التحالف الأوليجاركى الحاكم، دون النظر إلى الفرص الأوسع نطاقًا التى يوفرها السياق الدولى والإقليمى لتعزيز فرص التنمية الداخلية. ويبرز ذلك من خلال الانسحاب المتنامى منذ سبعينيات القرن العشرين من دوائر مهمة للسياسة المصرية فى إفريقيا والعالم الثالث، بل وجزء مهم من العالم العربى، باستثناء دول الخليج العربية، لمصلحة الارتباط بمركز الاقتصاد العالمى فى الغرب، مما أسس لعلاقة تبعية أسهمت فى تشويه توزيع عوائد التنمية الاقتصادية التى باتت تذهب فى جلها لمصلحة فئة محدودة من رجال الأعمال المحليين المرتبطين بالمركز العالمى فى الخارج. كما أهدر هذا الانسحاب فرصا تنموية مهمة كان يمكن أن يوفرها التواصل مع الفضاءات الإقليمية التى تم تجاهلها لعقود طويلة. يبقى أخيرا أهمية إدراك أن التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطى ليسا أولويتين متنافستين، فالتحول الديمقراطى عملية متواصلة تؤسس قيمًا ووعيًا وإجراءات، لا يمكن تصور اكتمالها من دون النجاح فى تنمية اقتصادية تعزز دور الفرد وتنهض به.