مع اقتراب ثانى انتخابات رئاسية مصرية منذ تفجر الحراك الثورى فى البلاد فى 25 يناير 2011، ترتفع مجددًا آمال المصريين فى أن تكون تلك الانتخابات فاتحة حقيقية لإحداث تغيير ثورى حقيقى لم تعرفه مصر فعلا حتى اللحظة. الثورة ليست مجرد تغيير أشخاص أو سياسات أو مؤسسات، الثورة الحقيقية تغيير جذرى فى الهياكل، التى يتأسس عليها مجمل العلاقات والتفاعلات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، بل والثقافية والقيمية فى الدولة. الثورة، بالتالى، عملية بقدر ما تشترط تفكيكا لكيانات وأبنية وهياكل قائمة، فإنها تكمن بالدرجة الرئيسية فى بناء بدائل لها تستجيب لمتطلبات النهضة فى لحظة تاريخية بعينها. ورغم كل الخطابات والشعارات المتاجرة بالثورة، فلا يمكن الزعم أن أيا من شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية تحقَّق فعليا حتى اللحظة. يمكن أن نلمح ثلاثة اتجاهات رئيسية فى تفسير هذا الإخفاق فى إكمال مسار الثورة المصرية. أولها يرده إلى ضغوط دولية وإقليمية حاولت احتواء هذا التغيير الثورى، منعا لامتداده عبر الإقليم، بل وحتى امتداده عبر القواعد المؤسسة لنظام دولى يتميز على المستويين السياسى والاقتصادى بقدر كبير من عدم العدالة. وثانيها يرده إلى ما يعتبره البعض صراعا بين هياكل المصالح وعلاقاتها التقليدية -أو ما يسميه هذا البعض بشكل غير دقيق «الدولة العميقة»- وبين من يسعون إلى التغيير الجذرى لهذه الهياكل والعلاقات. ولكن تغيرا حقيقيا قد حدث بالفعل على مستوى السياسة والمجتمع فى مصر، تجلى فى هذا التدفق السياسى الهائل وغير المسبوق للمصريين إلى عالم السياسة. إلا أن هذا التغير لم يتبلور بعد بالشكل المناسب، ليكتسب وجودا مؤسسيا وقيميا منظما ثابتا ومستقرا، يحدث آثارا إيجابية فى حياة المصريين. أما ثالث هذه الاتجاهات فيرد هذا الإخفاق إلى غياب قيادة، عجزت عن احتواء هذا التدفق السياسى، بما يتيح بلورة غاياتهم وتطلعاتهم إلى إجراءات عمل سياسى تحدث تغييرا حقيقيا. إلا أن عاملا معيقا آخر، ربما يفوق كل ما سبق، يمكن تبينه فى ما يبدو من تناقض داخلى فى تعريف ماهية التغييرات الثورية المطلوبة. رفع الحراك الثورى المصرى غايتين رئيسيتين هما الحرية والعدالة الاجتماعية، إلا أنه فى تعريفه لهما حمل تناقضا خطيرا، اضطر الحركة السياسية منذ تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك، أن تدور فى دائرة مفرغة تستدعى حالة اللا حرية واللا عدالة، وتديم حالة الإخفاق عن التغيير. تعكس غاية الحرية فى الواقع رغبة قوية فى إعتاق إرادة الإنسان المصرى من الخضوع التام لإرادة الدولة، أو هياكل مصالح غير عادلة ومجحفة بإمكانياته وقدرته، وصولا إلى إطلاق هذه الحريات والقدرات لما يراه «الفرد» المصرى نفسه، وليس أى كيان جمعى آخر غايات لهذا الوجود. وفى الواقع، فإن هذا الفهم يعود بالحركة السياسية المصرية إلى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حيث بدأت أولى محاولات صياغة تنظيم دستورى ومؤسسى ديمقراطى حديث لعلاقة المواطن بالدولة فى مصر، قبل أن يحيد الاستعمار الأجنبى للبلاد بجزء كبير من تلك الحركة لمصلحة أولوية سلطة الدولة، وتأكيد قوتها فى مواجهة المواطن ضمانا للاستقلال الوطنى. هيمنَ هذا السمت طوال 60 عاما من عمر دولة يوليو 52، مع محاولة تعويض تقييد الحرية الفردية من خلال تكريس مفهوم ل«عدالة التوزيع»، يقوم على إشباع الاحتياجات الأساسية للأفراد بناء على إرادة الدولة وإمكانياتها. أفضى تجاوز خبرة هذه الدولة لحدود اللحظة التاريخية التى تطلبتها، إلى إهدار لاحق لقيمتَى الحرية والعدالة معا، ذلك أن تغييب إرادة الفرد ذاته فى تحديد ما هو خير له، فضلا عن إهداره قيمة الحرية بداهة، لكنه أيضا يجعل معيار العدالة ومضمونها نخبويا وضيقا فى حدود مدى إشباع الاحتياجات الأساسية، وهو ما يتعارض مع مفهوم العدالة الأوسع الذى يقتضى توزيعا منصفا للقدرة على اتخاذ القرار. حراك المصريين، منذ ما قبل 25 يناير 2011، يعكس فى جوهره رفضا شعبيا لهذه المعادلة التى اتخذت بعدا هيكليا وأشكالا مؤسسية وإجراءات سياسية توزيعية. وبالتالى، فإن اكتمال ثورة المصريين رهن، حسب هذا الفهم، باستعادة علاقة عادلة وحرة بين المواطن وأى هياكل وتنظيمات جمعية أخرى. وهنا يكمن المعنى الحقيقى ل«عدالة المشاركة» لا مجرد «عدالة التوزيع»، التى أُهدرت بدورها بسبب عدم عدالة صنع القرار الخاص بها. وهنا أيضا تتحقق حرية الأفراد باعتبارها المعيار الرئيسى للحركة السياسية، الذى يتكامل مع هياكل تنظيمية، وليست قمعية وتسلطية، للدولة. معضلة محاولات صياغة مسار سياسى يحقق للثورة المصرية اكتمالها، وللمجتمع والدولة استقرارهما، أنها تمثلت فى جُلها خبرة الستين عاما الماضية. حاول الجميع تحقيق غايات الثورة من خلال محاولة إنتاج المعادلة غير العادلة وغير المتوازنة ذاتها بين حرية المواطن الفرد، وبين الدولة. ويتجلى ذلك أخيرا فى ترحيب القوى السياسية بما ورد فى دستور 2014 المؤمَّل فيه أن يؤسس لمسار حقيقى لاكتمال الثورة المصرية، من توسيع لدور الدولة من خلال زيادة الإنفاق الحكومى على الخدمات، وبالتالى التهديد مجددا باحتكار قرارات التوزيع وتقييد التنوع وحرية الاختيار الفردى. مثل هذا المسار سيديم، فى ما نظن، معضلة الحرية والعدالة فى النظام السياسى المصرى. يقتضى تجاوز هذه المعضلة وإحداث التغييرات الجذرية المشار إليها آنفا اقترابا مختلفا يعيد لحرية الفرد أولويتها ويجعلها بوصلة الحركة. وكيفية تحقيق ذلك، سؤال آخر.