مَن منا يستطيع أن يمتنع عن الطعام أكثر من يومين أو ثلاثة؟ الحقائق العلمية تؤكد أنه فى حال عدم حصول الجسم على حاجته من الطاقة يحصل عليها من الجلوكوز الموجود بالدم لمدة ثلاثة أيام، بعد ذلك يمدّ الكبد الجسم بالطاقة من الدهون المخزونة به، ثم بعد ثلاثة أسابيع يبدأ الجسم فى استغلال «العضلات» وأعضاء حيوية أخرى من أجل إنتاج طاقته، ما يؤدى إلى هبوط شديد، ومِن ثمَّ قصور فى وظائف الأعضاء. هناك حالات إضراب عن الأكل تنتهى بعد 50 يوما بالموت. عبد الله الشامى، مراسل قناة «الجزيرة» فى مصر، شاب عمره 26 عاما مُضرب عن الطعام منذ 110 أيام! تم القبض عليه يوم فض اعتصام رابعة العدوية فى أغسطس الماضى وهو يقوم بتغطية الأحداث، ووجِّهت إليه تهم «تشويه سمعة مصر، ودعم جماعة الإخوان المسلمين المحظورة بعد إعلانها منظمة إرهابية»، كان طلب عبد الله منذ اليوم الأول لبداية إضرابه هو أن يُحال إلى محاكمة أو يتم إخلاء سبيله. يوم 5 مايو الماضى بعد انتشار صور عبد الله التى أوضحت مدى تدهور صحته، حاولت إدارة سجن طرة الضغط عليه من أجل أن يعدل عن موقفه، وأمام إصراره على الاستمرار تم نقله إلى سجن العقرب وحبسه انفراديا، ومحاولة إطعامه قطعة من التونة قسريا، رغم خطورة الإطعام القسرى على المضربين عن الطعام لفترات طويلة، ورغم أيضا أن هناك أعرافا متّبعة عند كسر الإضراب، مثل استخدام المحاليل المغذية لمدة محددة، قبل أن يتمكَّن المضرب من تناول الطعام دون حدوث آثار سلبية على صحته. لم تكتفِ إدارة السجن بذلك بل صرح مصدر أمنى لوكالة أنباء الشرق الأوسط بأن حالة الشامى الصحية ممتازة، وأنه ليس مضربا عن الطعام، لكنه يرفض فقط تناول طعام السجن! قيل هذا رغم صور عبد الله المنتشرة التى تُظهر شابا هزيلا، وجهه ممتقع، وتحت عينيه هالات من السواد. ليس عبد الله وحده المُضرب عن الطعام، لكن هناك محمد سلطان أيضا المعتقل فى قضية رابعة، والمضرب عن الطعام منذ أكثر من 115 يوما، الذى وقع كشف طبى عليه فى مستشفى الحسين مؤخرا، وتم توصيف حالته بالخطيرة، وقد يؤدى إضرابه إلى الموت بالنزيف أو غيبوبة حتى الموت. الإضراب عن الطعام ك«وسيلة للمقاومة السلمية» أو الاعتراض على تجاوزات من السلطة داخل السجون ليس وليد اليوم. التاريخ يزخر بقصص للمسجونين المضربين عن الطعام، وأشهرهم هو المهاتما غاندى الذى اعْتُقل أكثر من مرة من عشرينيات إلى أربعينيات القرن الماضى من قِبل قوات الاحتلال البريطانى للهند، لم يشفع لغاندى إلا مكانته الدولية وقتها، بينما آخرون تُركوا لمصيرهم وصاموا حتى الموت. ما الذى يدفع إنسانا إلى المخاطرة بحياته على هذا النحو؟ أكثر من ذلك، إنه موت بطىء، فالمُضرب يستيقظ كل يوم من نومه ليلحظ أن جسمه آخذٌ فى الذبول، ومع ذلك فإصراره يزيد. إنها ظروف الحبس الاحتياطى المخالفة للقانون البشرى والإلهى أيضا، ولا عجب أن يتجه بعض المعتلقين إلى الإضراب عن الطعام بعد أن فَقَدوا الأمل فى تحسن ظروف حجزهم، ورغم تحذير المجلس القومى لحقوق الإنسان، فى تقرير له رُفع إلى رئيس الجمهورية فى مارس الماضى، من التوسع فى استخدام والتجديد التلقائى للحبس الاحتياطى فإن شيئا لم يتغيَّر، فالمادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية تنصّ على أنه لا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطى على ثلاثة أشهر، لكن الرئيس «المؤقت»، عدلى منصور، أصدر تعديلا على القانون يقضى بتحرير محكمتَى النقض والجنايات من قيود مدة الحبس الاحتياطى للمتهم إذا تعلَّق الأمر بالمؤبد أو بالإعدام، إلا أن السلطات استغلت هذا التعديل، فأصبح آلافٌ قابعين فى حجوزات الأقسام فى ظروف أقل ما يقال عنها إنها غير إنسانية. لم يعد هناك مكان شاغر فى السجون فتم استخدام حجوزات الأقسام بدلا منها ليقبع فيها أعداد لا تتناسب مع مساحتها أو استعداداتها، لا عجب إذن أن يخاطر البعض بحياته، فالموت أحيانا أهون من حياة كتلك. قد نختلف مع قناة «الجزيرة» فى تناولها لفترة حكم الإخوان ومحمد مرسى ولاعتصامى رابعة والنهضة، لما كان فيه من تحريض مباشر على استخدام العنف، لكننا لا نختلف على أن الصحفى مجرد موظف يؤدى وظيفته، وأن وسائل الإعلام فى العالم أجمع متحيزة لأجنداتها، وأن هذا لا يستدعى بأى حال من الأحوال احتجاز الصحفيين وإقحامهم فى الصراعات السياسية. ثم إن المتهم برىء حتى تثبت إدانته، إلا هنا كما ورد فى خطاب محمد سلطان الذى قرأه لهيئة المحكمة خلال جلسة محاكمته الأخيرة «المتهم محبوس احتياطيا حتى تثبت براءته». فالجوع «كافر» والحبس الاحتياطى «أكفر».