إذن، أغلبيتنا إياها المستعدة دائما لنفاق كل حاكم وأى حكم وأن تصدق ما يقول وتكذب عيونها، هذه الأغلبية بدت راضية أو على الأقل، غير غاضبة ولا مستهجنة لعمليات القتل المجنون والقمع الوحشى للمعتصمين سلميا أمام مبنى مجلس الوزراء.. وحتى لما تضمن هذا القمع سفالات وإهانات عمدية مشينة للنساء «شابات وعجائز» وصلت إلى حد سحلهن وجرهن من شعورهن فى الشوارع وهتك أعراض بعضهن علنا، ظن كثيرون «العبد لله منهم» أن حال «الاستديان» الشكلى والمظهرى «وليس التدين الحق» التى يسكن فيها المجتمع حاليا وما يصاحبها من ضجيج هائل ورطان ورغى عمال على بطال فى الدين والأخلاق والعفة وخلافه، كل هذا قد يدفع نسبة كبيرة من جحافل المنافقين إلى الكسوف والخزى ومن ثم إبداء شىء من الغضب أو الاستهجان لما حدث فى شارع قصر العينى وميدان التحرير ابتداء من فجر الجمعة قبل الماضى، لكن للأسف حدث العكس إذ ذهب البعض فى الفصام والنفاق والكذب على النفس إلى حد لوم الضحايا والتماس التعلات والأعذار للجناة والمجرمين! و.. أعود لأستكمل قائمة الملاحظات والوقائع التى شرعت أمس فى سردها، بعدما انتهى تأملى الحزين فى ما فعله جنود القمع ورد الفعل «الشعبى» عليه إلى يقين بأن كليهما «الفعل الشاذ ورد الفعل الأكثر شذوذا» ينحدر من مصدر مرضى واحد، وينتسبان إلى أوضاع مجتمعية متراكمة وموروثة من عقود السحق والنهب والإفساد الطويلة بلغ تشوهها ومظاهر بؤسها المادى والعقلى والروحى حدا من الفحش مروعا ولا يطاق.. هذه الأوضاع أظن أنها هى التى جعلت النساء بالذات يمثلن «فضلا عن نصيبهن الوافر من القمع والعقاب» أحد أهم عناوين الصراع المجتمعى العنيف الدائر حاليا بين أقلية كبيرة «23 فى المئة من السكان، حسب ما انتهى إليه استفتاء مارس الشهير» غالبيتها شابة ومتعلمة ومنفتحة وطامحة للنهوض والتحرر «هى التى فجرت الثورة ودفعت فيها ضريبة الدم ما زالت تحرس أهدافها» وبين كتلة ضخمة سحقها الاستغلال والإفقار والتشويه المتعمد وهى التى يتم استخدامها الآن فى محاولة هزيمة الثورة وإسقاط ثمرتها فى فم قوى تجاهر بالعداء الصريح لأغلب أهدافها وكل قيمها وشعاراتها السامية. لكن لماذا النساء تحديدا؟ وما علاقة حادثة تعرية وإهانة وهتك عرض بعضهن بالصراع آنف الذكر؟! ستفهم الإجابة بقليل من الجهد إذا قرأت باقى قائمة الملاحظات والوقائع الآتية: * إن استهداف النساء والفتيات الناشطات بالإهانة والبذاءة وهتك العرض على النحو البشع الذى رأيناه الأسبوع الماضى لم يكن حادثة فريدة فى تاريخنا القريب، بل أتى فى سياق حوادث مشابهة ومتواترة كثيرة وصلت ذروة فجورها وفحشها قبل الثورة فى جريمة التحرش وهتك الأعراض الجماعى المبرمج، التى ارتكبتها قطعان أجهزة أمن حسنى مبارك فى شوارع قلب القاهرة يوم 26 مايو 2005، عندما أجرى الاستفتاء المزور الشهير على مادة «التوريث الدستورى» رقم 76، وقد استمر هذا الإجرام الشنيع معتمدا كوسيلة للقمع بعد الثورة (جريمة «كشف العذرية» مثالا). * لكن لا بد لأى منصف أن يلاحظ أن الإهانات الجنسية والتحرش الجماعى والعلنى بالفتيات والنساء فى الطرقات العامة صار سلوكا شاذا شائعا وتجاوز حدود «القمع السلطوى»، وأضحى وسيلة «تسرية وتسلية» معتمدة لدى قطاعات ليست قليلة من مجتمع يتحدث ليل نهار فى الأخلاق الحميدة ويقحم الدين فى كل شىء، ولما فاز بعد الثورة بالفرصة الوحيدة فى حياته لممارسة فعل التصويت الانتخابى منح الأحزاب الدينية أغلبية كاسحة! * هذه الأحزاب الدينية لا تكاد تعثر فى برامجها على خطط واضحة تتعلق بهموم وقضايا المجتمع الأساسية، أما أكثر القضايا وضوحا فى هذه البرامج فهى الالتزامات «الموصوفة بالشرعية» والقيود المتعددة التى يرون ضرورة تكبيل المرأة بها، ولعل أوضح مثال على هذا الاهتمام الزائد بالشأن النسوى أن البرنامج الانتخابى لحزب الإخوان الذى تجاهل أى إشارة إلى اتفاقيات «كامب ديفيد» ومعاهدة السلام مع العدو الإسرائيلى تذكر واضعوه فقط الاتفاقية الدولية بشأن «حظر التمييز ضد المرأة» وكذلك اتفاقية «حقوق الطفل»، وطالبوا صراحة بإعادة النظر فيهما وسحب توقيع مصر عليهما! على فكرة، 25 فى المئة «على الأقل» من الأسر المصرية تعولها نساء!