هل ستُحرَق القاهرة؟ المجلس العسكرى أعلن الحرب على الثوار. وينشر الآن تفاصيل مخطط لتخريب مصر. التفاصيل دون تفاصيل فى الحقيقة. والمؤامرة مكتوبة بنفس الأدوات المتوارثة من أيام القلم السياسى. اعترافات مصوّرة بالمخطط وأماكنه، وثوار فوضويون يريدون هدم الدولة، واجتهاد فى رسم صورة نمطية للفوضوى طويل اللحية، وضفيرة شعر مع التوابل والبهارات. الأخلاقية المعتادة: حشيش وخمر ونساء. العقلية نفسها التى أحرقت القاهرة فى 1952 وكادت تحرقها فى 1977، لتقول إن الخروج عنها عمل إرهابى هدفه التخريب، ولا حل إلّا بالالتحام بين الشعب وسلطته. هى العقلية نفسها، لكنها تتعامل هذه المرة مع صنف من الثوار لم تشهده مصر من قبل، وهذا ربما هو سر «تهلهل» الرواية رغم وجود جمهور كبير مؤهل لاستخدامها. ثوار يكسرون حاجز الخوف من الموت، ويراهنون بحياتهم على مستقبل بلا جهاز أمنى غشيم ولا ضابط كل مهمته كسر الإرادة والروح، ولا مستبد يحرّك أجهزة الدولة كلها لتحمى استمراره على كرسيه. الرواية تعتمد على دراما مرعبة: هناك مخطط لهدم الدولة، وجار البحث عن أبطال للرواية «مصريون بالاتفاق مع عناصر خارجية».. رواية منقولة بالحرف من تجارب دول فاشية وجُرِّبت فى مصر عدة مرات، ولم تنقذ نظاما، ولم تنجح فى وصول الثورة إلى أجيال وُضِعت فى مغاسل المخ الضخمة. الدولة..؟ ما الدولة الآن؟ هل النظام هو الدولة؟ هل عندما يسقط النظام تسقط الدولة؟ النظام أكل الدولة طوال 60 سنة.. أكلها والمتبقى منها أطلال ومبان يستخدمها الجيش الآن معسكرات لتخزين جنوده لمواجهة الثوار. الدولة الآن هى الأطلال التى بقيت من الجمهوريات الاستبدادية المتتابعة بعد أن تحول كل منها إلى مبنى بلا معنى، أو بمعنى يخدّم على سلطة الديكتاتور.. باختصار هى: مؤسسات فارغة، تدار بإشارة إصبع من الحاكم، أو إقطاعيات تدار لمصلحة الرئيس والنظام. البرلمان مثلا لم يكن «سلطة تشريعية» مستقلة عن إصبع الرئيس، لكنها كانت مسابقات لنيل حصة فى إقطاعية البرلمان، أحد التروس الأساسية لماكينة الاستبداد. ماذا بقى منها غير «مبنى تاريخى» رمزى؟ لا شىء سوى أطلال تحيطها أسوار غليظة، خلفها أسوار شائكة، وكتائب جنود لا يعرفون شيئا عن الحرب التى يخوضونها يوميا. يتصور الضباط والجنود أنهم فى حرب مع أعداء، أو كما تصورهم الروايات الرسمية، شياطين لتخريب مصر، لأن صاحب الرواية لا يريد سوى إعادة دولة الأطلال.. دولة تخضع كلها لإدارة المؤسسة الأمنية. الدفاع هنا عن المؤسسة الأمنية وعن حجمها المتضخم لتصبح أكبر من الدولة. هذه هى الحرب فعلا. ولا مانع فيها من حرق القاهرة، أو تحزيمها بأسوار حجرية، من أجل نهاية الحلم بدولة مؤسسات، حديثة لا سطوة فيها ولا تسلط. الحرب ضد الثورة هدفها: استعادة دولة تتسلط فيها الأجهزة الأمنية على كل شىء، لكن المخطط يتم دون كفاءة، فيخسر المجلس، وتبقى فقط الجروح والآلام.. لأنه لم يعد هناك مجال لتقبل عودة الدولة التسلطية، ولا يملك المجلس العسكرى أدوات فرض التسلط، لأن فاتورته باهظة وأذرعته السياسية والاجتماعية معطلة. أسوار المجلس حول قلب القارة هى نصب تذكارى للفشل. لماذا إذن الإصرار على خطة أثبتت فشلها؟ وإلى أين يقودنا هذا الفشل؟ وماذا يريد المجلس العسكرى.. بعد كل هذه المحاولات الفاشلة لإعادة بناء ديكتاتورية جديدة؟ ومَن سيحرق القاهرة؟