الرد الجاهز، تسمعه ألف مرة، من مسؤول أو حاكم متبرّم، قالها مبارك ويقوله عشرون «مبارك» فى المجلس العسكرى، والوزير يرددها. لماذا مصر، دائما فى خطر، قبل الثورة وبعدها؟ فى الحرب وقبلها وبعدها؟.. المسؤول يرى نفسه مبعوث عناية من طراز فريد لم يهبط إلى الدنيا على يد قابلة، ولا أدت حمايته للبلد إلى كارثة كما فعل كل من يظن نفسه مبعوث العناية. الغريب أن المنقذين فعلا لا يشعرون بهذه المشاعر، وأصحاب المهام فعلا يجلسون فى شرفة الفرجة الواسعة على ما يحدث. العلقة بالسلطة غريبة فى مصر، تنتاب من يركب قطارها مشاعر فورية بأنه منقذ، وبأن وجوده، مجرد وجوده إنقاذ للبلاد، لماذا؟ وهل سياساته ستحل الأزمة؟ الحقيقة أن وجوده يتحول إلى أزمة بعد ذلك تُنسى الجميع الأزمة الأولى ويصبح الكلام كله عن مقعد السيد المنقذ. زوار الدكتور عصام شرف حائرون بين أساطير عن شخصيته المترفعة عن السلطة، الزاهدة فى المناصب، وبين حكايات تقال مؤخرا وبصوت خفيض عن تمسكه بالاستمرار. تحولات الكرسى؟ والغرام بالسلطة؟ أم هى روح غريبة تتلبس الداخل إلى أروقة الحكم فى مصر، هذه الروح تصور لصاحبها أنه المنقذ وأن رحيله سيضيع البلد؟ رواة الجلسات الخاصة لكل أعضاء المجلس العسكرى يتناقلون حكايات لا تخلو من هذه الروح، وتفاصيل تنتهى كلها ب«عايزين نروح»، وبعد هذه العبارة جملة اعتراضية تتضمن «ولكن...» يأتى فى نهايتها «البلد ها تقع». الداخل إلى كواليس الحكم فى مصر تتلبسه روح مبعوث العناية، والمدهش أنها روح سكنت مبارك وتشعره الآن بالخديعة والغدر. مبارك يلتصق الآن بسرير المستشفى، كما كان يلتصق بكرسى الرئاسة. التصاق يجعله يدافع عن موقعه بضراوة تثير الدهشة، نفسية موظف اتسعت على فراغ شخصى، فلا هو كاريزما، ولا لديه مشروع، لكنه موضوع بالنسبة إلى جماهير بائسة تراه «الأب المغدور» فى أسطورة عاطفية تفجر كوميديا، إذ لو كان كل حكام مصر آباء، فإن مبارك آخر من يصلح لهذه الصورة. كوميديا سوداء، يصمم مبارك أن ينهى بها فترة حكمه، التى تضع خطا أبيض بين جمهوريتين، وعقليتين فى السلطة والمجتمع، فالمجلس اقترب من أن يكون «20 مبارك»، وشرف يرى نفسه مضمد جروح الشعب، ولا يعرف من أين شرعيته؟، فوضى يراها البعض كارثة، لكنها طبيعة لحظات التحول من استبداد، كان يمكنه الجمع بين الأمان والخوف فى سبيكة تجعل مصر بلدا آمنا رغم كل الخوف، وتجعل نظام مبارك واحة ديمقراطية مقارنة بأنظمة تقتل شعوبها تحت رايات نبيلة مزيفة. عصام شرف لم يقدم استقالته، ولم ينسحب من تركيبة الحكم العجيبة... مجلس لا يعرف فى السياسة ويدير، وحكومة بلا صلاحيات وتنفذ! لحكومة شرف جديدة، وقديمة، غيرت ولم تتغير، شرعيتها من الجنرالات، وبعض عضويتها من ترشيحات الميدان، خلطة قد تعجب المجلس العسكرى وقد يكمل بها إلى انتخابات الرئاسة، لكنها تمر مثل كوب ماء ساخن فى عز الحر. الفوضى فى التشكيل الوزارى الجديد تعبير عن انفلات إيجابى من المركز الواحد، الذى حاول العسكر وراثته من مبارك، إلى تعدد مراكز، غير مجربة كلها. المجلس ورثة المنصة (أو الشرفة) حيث المعرفة والسلطة تسيران من أعلى إلى أسفل، والترتيبات كلها تدار فى الكواليس المغلقة، أو وفق قوائم يحددها الكهنة خلف ستارهم الغامض. لكن الميدان كل نقطة فيه مركز، والثورة حررت العلاقات القديمة، وفجرت قوة المجتمع، غير أنها لا تزال فى مرحلة الطفولة، والتكون الأول بلا تجارب ولا خبرات، إنها تلك اللحظة: صراع بين عقل قديم يريد إعادة تشكيل الثورة على موديل جاهز، وبين عقل جديد، أميل إلى فوضوية مثالية، تريد تفكيك الموديلات ولا تملك القدرة على التشكيل. هذه هى لحظة الفوضى المرعبة للكثيرين، رغم أنها طبيعية، فى ظل ثورة بلا تنظيم سياسى، تشحنها رغبات فى بناء دولة لا تذكر بجمهورية التسلط، وتحركها روح ثورة لا تهدأ إلا بتكسير أبنية السلطة القديمة. وفى لحظة الصراع هذه تنتشر حمى الالتصاق بالكرسى، من مبعوثى العناية المنقذين، لأنه ما زالت لم تظهر فى الأفق معايير المحاسبة والمهام والتكليفات..هل أنت ناجح أم فاشل؟ وليس هل أنت المنقذ؟ هل البلد ها تقع لو أنت مشيت؟ والفرق بين السؤالين كبير جدا.