الهدوء الحذر، كان سمة أمس فى المنطقة الملتهبة بشارع الشيخ ريحان وميدان التحرير. المعتصمون قضوا الساعات الأولى من صباح أمس فى حالة ترقب فى ميدان التحرير، بسبب احتمالات خرق قوات الجيش التهدئة والهجوم على الميدان. المعتصمون ظلوا طوال الليل مترقبين هجوم قوات الأمن، لكن هذا لم يحدث، وحال الجدار العازل «المانع الخرسانى» الذى أنشأته قوات الجيش فى شارعى قصر العينى والشيخ ريحان دون تجدد الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، حيث قام عدد كبير من المتظاهرين بإقامة جدار بشرى بين المانع الخرسانى والمتظاهرين فى الشارعين، وأنزلوا كل من يعتلى الجدار، خصوصا بعد أن قام عدد من الشباب الذين اعتلوا الجدار بإلقاء الحجارة على قوات الجيش والأمن المركزى الموجودة خلف الجدار. الجدار العازل، والجدار البشرى، اللذين منعا تجدد الاشتباكات، لم يمنعا المظاهرات التى طافت الميدان تندد بالمجلس العسكرى وبالعنف ضد المتظاهرين، رفعوا خلالها صور شهداء الأحداث الأخيرة وأبرزهم الشيخ الشهيد عماد عفت، كما رفعوا صورة الفتاة التى انتهك أفراد الجيش عرضها، وتمت تعريتها فى شارع قصر العينى. وردد المتظاهرون «لا إله إلا الله، الشهيد حبيب الله»، و«يا نجيب حقهم يا نموت زيهم»، و«يسقط يسقط حكم العسكر»، و«الشعب يريد إسقاط حكم العسكر». وقاموا كذلك بنصب خيمة وسط الميدان، ووضعوا عليها علم مصر، وصورا للشهداء. ثقافة الجدران، تلك السياسة الجديدة فى التعامل مع المظاهرات السلمية، لفتت انتباه عديد من المراقبين. بدأها المجلس العسكرى أولا أمام السفارتين الإسرائيلية والأمريكية وبعدها فى شارع محمد محمود. وكانت آخر المحطات شارع الشيخ ريحان وربما ليس آخرها، فقد يتحول وسط البلد إلى منطقة «تحت الحصار»، وكانتونات معزولة، وسط رائحة الدم المنتشر. هذه الثقافة لم تبدأ منذ تولى «العسكرى» المسؤولية ولكن من قبلها حين قال الجنرال المباركى أحمد شفيق «خليهم قاعدين فى التحرير زى ما هما عايزين وإحنا هنبعتلهم بنبون».. كل الرؤوس تحت بيريه الجنرال تفكر بنفس الطريقة، ياخدوا الميدان ويشبعوا به، قالها اللواء محسن الفنجرى أيضا للمصابين نهاية أكتوبر الماضى: عايزين جدول زمنى لمطالبكم روحوا خدوه من التحرير! ولأنه كما نسمع ونشاهد «البير شكله من غير قرار» لم يكن من الغريب أن يقول اللواء عبد المنعم كاطو إن «الناس اللى فى التحرير يستاهلوا يتولع فيهم فى مكانهم».. إذن حاصروهم واقتلوهم لأنهم لم يوافقوا على أن تخطفوا أحد شبابهم وتضربوه حتى القتل لأنه فكر أن يواجه إحدى سيارات الخطف السوداء التى اعتادت أن تحوم حول الميدان وشبابه. شركة «المقاولون العرب» بعد محاولتها التدخل فى الميدان خلال أحداث «محمد محمود» تراجعت سريعا وتبرأت، وقال رئيسها المهندس إبراهيم محلب «كنا نرفع الحجارة فقط، أى بناء للجدران مسؤولية الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة». الأديب صنع الله إبراهيم حاول أن يعلق مندهشا مما يجرى فقال «لا أصدق ما وصلنا إليه، فمن ناحية ثقافة الجدران التى يتبعونها فإنها تضع فى مواجهتك سريعا جدار العزل بالضفة الغربية.. فهل صرنا الأعداء؟»، بينما يتطور المشهد من سحل وشد شعر إلى بناء جدران ليصبح مثالا صارخا على حالة «همجية» غير مفهوم مصدرها، مضيفا أن الأدب المصرى تناول كل أنواع القمع سواء تاريخا أو فانتازيا فلم يصل خيال الأدباء إلى ما وصل إليه المجلس العسكرى من ثقافة العزل المستمر التى ينتهجونها. عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ فى جامعة عين شمس، قال عن الجدران إنها فكرة قمعية قديمة لكنها ظلت بعيدة عن مصر، لم يستعرها من التجارب الغربية إلا من يجلسون فى الحكم الآن، مضيفا «التاريخ المصرى لم يشهد بناء الحكام الأجانب جدرانا حول أهلها، بل كان يتم بناؤها فقط فى مواجهة العدو الخارجى».