ينقبض قلبي كلما تذكرت خطاب الدكتاتور يوم الثلاثاء اول فبراير 2011 وهو يرسل رسالة لبلطجيته في كل طبقة وكل شارع وكل عائلة خرجوا من جحوركم، انا باق ولا يهمني، اخرجوا ومارسوا بلطجيتكم، دافعوا عن مراكزكم القذرة اينما كنتم فانا باق ادافع عن مركزي القذر بكل قذارتي. وفعلا خرجت خليط عجيب من البلطجية في يوم سيحاسب ويحاكم عليه مبارك حتى بعد ان ينقطع الحديث عن كل جرائمه الأخرى. خرجت البلطجة في محاولة لإعادة بعض الخوف الى القلوب التي تخلصت من الخوف يوم 28 يناير وحلقت في السماء يوم اول فبراير بالمظاهرة المليونية الأولى في تاريخ مصر.
في اسبوع الثورة الأول كلنا رأينا السيارات المصفحة وهي تتراجع امام الجماهير، كلنا رأينا المصفحات وهي تتوقف امام انسان اعزل اوقفها بجسمه، كلنا رأينا افراد الشرطة وهي تلف حول نفسها وتتبعثر كالعرائس الورق، كلنا رأينا الشرطة وهي تحاول تدمير الإرادة بكل الطرق الوحشية ابتداءا من الضرب والركل وانتهاءا بالدهس والطخ. كلنا رأينا العنف وانهزامه. وكلنا رأينا الجماهير وهي تنتصر وتتصارح يدا واحدة على مقت نظام الرئيس المتعفن واسقاطه.
وجاء خطاب الملعون وخرجت الثعابين من جحورها للترويع، فلم تعد هناك ورقة توت، سرقوا ونهبوا البيوت وهجموا على المظاهرات بالمولوتوف وعلى المتظاهرين بالسنج، اعترضوا الأفراد في الشارع بدون تمييز واستخدموا اقذع الشتائم، وحاولوا نهب وانتهاك المتحف وكادوا ان ينجحوا، الخ الخ... ووصلت الرسالة الى المجتمع. وتباينت ردود الفعل، فبذرة الخوف عادت، واوتار الخوف كثيرة ومتأصلة في نفوسنا، وهم يعزفون عليها كلها. تباينت ردود الفعل، وشعرت ان من المهم ان نميز بينها حيث ان التعامل معها خطير.
هناك بالطبع من كان يضمر في نفسه رغبة اكيدة في فشل الثورة ويصلي لعدم حدوث التغيير ابدا، لأنها لا تفيده ووصل من الفساد والمهانة ان لم تعد عنده ذرة ذمة، ولا تهمه ولا البشر ولا البلد، هؤلاء اوجدت اعمال البلطجة عندهم الشجاعة حتى يبدئون الحرب النفسية ضد الغالبية العظمى الكارهة القانتة. ولكن هؤلاء لا يهمونني فهم كانوا يعملون ضد التغيير وضد التضامن وضد الشجاعة الأدبية من قبل، وهم ليسوا حزانى او تعساء اليوم من هول الأحداث. هؤلاء امرهم سهل وسيفرون في الوقت المناسب. من ناحية اخرى هناك من وجد في نفسه الشجاعة في الإستمرار في الإحتجاج، فهموا الرسالة المخيفة، واحسوا بالرعشة، ولكنهم تمالكوا وفهموا ان قوتهم في استمرارهم، واستمدوا القوة من بعض وهم كثيرون نراهم في التحرير وفي المحافظات الثائرة وفي التلفزيون. وهم باقون متحضرون يحافظون على ممتلكات مصر ويمارسون اعلى درجات التحضر اثناء احتجاجهم حتى اصبح الواحد مننا يحتاج ان يذهب الى التحرير على الأقل مرة في اليوم ولو لنصف ساعة حتى يشعر بآدميته ويتذكر ويستمد الطاقة. يكنسون الميدان، يحرسون المتحف، يحمون البلطجية الذين يقعون في ايدي المتظاهرين الغاضبين ويهتفون سلمية بانتظام، يقومون بتفتيش المتظاهرين حتى لا يدخل السلاح او الطوب او المتفجرات ويعتذرون بأدب وبصدق عن الإزعاج والمتظاهرون الذين يتم تفتيشهم يشكروهم على حمايتهم الميدان بلا كلل ولا ملل، يلمون التبرعات ويوزعون الأطعمة المتواضعة ويتفاخرون بتواضعها، ينامون تحت جنازير دبابات الجيش معلنين، سنموت دفاعا عن كرامتنا وحريتنا ولكننا لن نقتل في سبيلها ولن نتهجم على احد. المسلمون يصيغون الهتافات ضد اضطهاد الأقباط والمسيحيون يحرسون المسلمون وهم يصلون، ان ميدان التحرير والمظاهرات اليوم هم اكبر جامعة في مصر. الذي يدخل ميدان التحرير تتغير حياته.
ولكن المجموعة الهامة التي اود الكلام عنها، هم هؤلاء الذين اشتعل الأمل في نفوسهم للحظة، ومات الخوف داخلهم لوهلة ونزلوا الشارع وصرخوا باعلى صوتهم ‘خلاص مش قادرين ارحل حل عنا سيبنا نعيش عايزين كرامة عايزين تحضر' ثم اصابهم خطاب الدكتاتور حسني مبارك يوم الثلاثاء اول فبراير في النخاع... فهموا جنونه، فقدوا الأمل كله مرة واحدة، رأوا ان هذا الرجل سيخرب البلد ولن يتركها في حالها ابدا. هؤلاء واعتقد انهم كثيرون، وهم مربط الفرس اليوم، كانوا مؤمنين انه لا يمكن ان يظل هذا الدكتاتور في مكانه ابدا لحظة واحدة بعد انفجار ثورة بهذه القوة وبهذا الحجم وبهذا التنوع، فلما تمسك بالبقاء واعطى الإشارة لإشاعة الترويع والفوضى، صدموا واصابهم الشلل، شعروا بانهم يتعاملون مع كيان مجنون فاصابهم مس من جنونه. احسوا ان جنونه سيؤدي الى خراب البلد ولن يرحل ولا حتى بعد ان يخربها. فالتفتوا مذعورين الى العاقلين الطيبين المسالمين المتحضرين، التفتوا الى الثوار الشجعان يرجوهم بكل الطرق ان يكبروا دماغهم لأن الرجل خطير خطير خطير. اي اني ارى ان عند مطالبتهم لنا بتصديق وعود مبارك هم في الحقيقة يطلبون منا ان لا نثق بالمرة. ان لا نثق الا في شره وجنونه وان ننتظر ان يموت من تلقاء نفسه، اي انه نوع من الهلوسة الناتجة عن الهلع.
والحقيقة اني اعتقد ان مخاوفهم مشروعة، فنحن فعلا نتعامل مع نظام به مس من جنون التخريب. نظام الأرض المحروقة. لقد اثبت النظام وعلى رأسه الدكتاتور حسني مبارك انهم قادرين على حرق البلد عن آخرها حتى يخرجون منها وربما حتى بدون ان يخرجوا، سيحرقوها ويظلوا بها. ومن هنا تم خلق هذا الوضع الغريب، حيث المظاهرات المليونية تتوالى والرجل ونظامه لابدون في السلطة، قد نجح في شل جزء ضخم من معارضيه واقنعهم انه لا يقهر، مثل خط بارليف. من كان يتخيل ان هناك نظام في مصر يتحمل اكثر من مظاهرة مليونية؟ النظام في مصر يتحمل اكثر من مظاهرة مليونية لأنه نجح في ترويع قطاع ضخم من كارهينه بأنه سيدمر البلد. ومن هنا اصبح من الضروري شرح كيفية انتقال السلطة بطريقة سلمية منظمة، ليس لإرضاء اوباما، الذي يتفرج على التلفزيون مثلنا ويتعجب ويتكلم ويتكلم ويتكلم، انما استماعا منا، نحن الملايين الذين ابقينا الشعلة مشتعلة، لمخاوف حقيقية عند هؤلاء الذين اقتنعوا ان النظام غير قابل للخلع بدون تدمير مصر. وبالطبع، فأن كل محاولات اقطاب المعارضة "الشائخة" والشخصيات "الحكيمة زيادة عن اللزوم" استغلال هذه المخاوف الحقيقية بأن يقترحوا اقتراحات خائبة يرفضها بوضوح وتلقائية المتظاهرين الأبطال، هذه المحاولات لا تزيد القطاع المصدوم الا قلقا وتقلل من ثقته في امكانية تحمل الثورة مسئولية حماية مصر من جنون النظام التتاري. انا اكتب الآن وانا لا املك حلا لطمئنة المصدومين. ولكني اكتب لأنني مقتنعة ان من واجبنا التعامل مع مخاوفهم لأنها حقيقية. هم مخطئون في قبول الشلل الذي تولده هذه المخاوف الشرعية ولكننا نخطئ ان اخذنا مسئولية التغيير بتساهل او اعتقدنا اننا من الممكن ان ننتظر معجزة تنصر الثورة وتنأى بالمخاطر عن المجتمع. اقترح ان نقدم لهم اقتراحا جديا بجدول مفصل لكيفية انتقال السلطة من لحظة تخلي مبارك عن السلطة في التلفزيون الى لحظة الانتخابات حرة. يعني محاولة شرح كيف يمكن للأمور ان تتم بنظام والا تمر لحظة، كاللحظة التي مرت بها مصر بعد الخطاب الملعون.
من كوابيس المصدومين المشلولين هو ما سيحدث لحظة اعلان مبارك تنحيه مباشرة. هناك اعتقاد كابوسي ان لحظة ان يتنحى مبارك ستقوم القيامة وينزل البلطجية في كل مكان بالسلاح الحي هذه المرة لتولي السلطة مكان مبارك وانهم لن يتركوا لأحد الفرصة ان يتحكم في البلاد حتى يتمكنوا من استعادة مملكتهم، وان الجيش منقسم، وان تسلسل الأوامر مضطرب وان الجيش نفسه ممكن ان يكون جزءا من الفوضى. والمشكلة الكابوسية الإعتقاد ان لا احد يستطيع التحكم في العصابة الا رئيس العصابة، مبارك. لن تكون هناك الرأس التي يمكنها ان تطلب منهم الكف عن الفساد والفحيش وان تطاع. وانهم لن يستمعوا الى اي من الرؤوس الحميدة التي ستحاول قيادة البلاد بعد مبارك، بالتحديد لأنها حميدة ! اقتراحي يتلخص في اننا يجب ان نحمل في احتجاجاتنا الدستور المؤقت: أي جدول الإنقاذ. ممكن ان نأخذ جزئا من اقتراح البرادعي، وهو اللجنة الرئاسية المؤقتة يكون الجيش طرفا فيها، تقوم اللجنة الرئاسية بالغاء الدستور الحالي بالكامل وتسريح جهاز الشرطة بالكامل وتجميد المخابرات الحربية ودخول الجيش بكامل قوته لحفظ النظام والسيطرة على الشارع وحفظ الأمن. وتحل مجلسي الشعب والشورى فورا حتى تتم صياغة الدستور الجديد. ويلغى الدستور تماما ويؤخذ بدستور مؤقت يكون جاهزا في خلال اسبوع قبل تنحي الرئيس، دستور مؤقت لا يكون فيه الا البنود التي تنظم انتقال السلطة والبداية الدستورية الجديدة مع تحديد تاريخ الدستور الجديد فورا 4 اشهر مثلا والإنتخابات التشريعية بعد مدة كافية لممارسة السياسة، سنة او سنتين مثلا. وتعلن اللجنة الرئاسية عن تشكيل لجنة لصياغة الدستور الجديد وتعلن عن تشكيل حكومة انقاذ مكونة من جميع الفئات المشاركة في الثورة، من الشباب اولا والإخوان المسلمين ولجنة الحكماء والشخصيات العامة الموثوق بها التي لا تتسم بالحكمة الزائدة عن الحد، مع استثناء كامل لأي طرف من اطراف الحزب الوطني وكبار موظفي النظام الحالي. حكومة تضم شخصيات قوية من المجتمع ولكن لا تضم اي ذيل من ذيول النظام. المطلوب ان نكون جاهزين بهذا العرض – الدستور المؤقت، نلقي به الى الشارع وامريكا والعالم في وجه النظام اللابد وننزل مظاهرة مليونية ونحن نطالب بهذه الخطوات. فالى ان ننزل بجدول مفصل كهذا ستستمر حالة الشلل. ولنسمه "جدول الخلاص" او "الدستور المؤقت". اتصور ان الشعب والعالم لا ينتظرون الا اقتراحا متماسكا، حتى ينضموا الى ضغوط فعلية لإسقاط النظام، والنظام نفسه لا ينتظر الا شئ من هذا القبيل لينقض هو ايضا في اتجاه التنحي والهروب. فقوتهم كلها تكمن في شلل المصدومون وخوف العالم من عدم ادراك الثورة لهذا الجنون. كما نعلم هناك مشكلة الإنقسامات، حيث ان التمثيل في اللجنة الرئاسية والحكومة المؤقتة سيسبب مشكلة تنافس والكثير من الأطماع تظهر في هذه الأجواء وتفسد كل شئ، وربما كان حل هذه المشكلة في ان يكون منصوصا في الدستور المؤقت على ان المشاركين في اللجنة الرئاسية او لجنة صياغة الدستور او حكومة الإنقاذ التاريخية لا يمكنهم الترشح لرئاسة الجمهورية او لرئاسة الوزارة، ولا اي منصب يخول لهم تشكيل الحكومة القادمة لمدة دورة برلمانية واحدة وفترة رئاسية واحدة على الأقل. وكما رأينا في اليومين الأخيرين هناك من رجال القانون ومن الساسة ما يكفي لصياغة هذا الإقتراح وتقديمه للشعب وللعالم والبرادعي وهيكل تقدما باقتراحات وتصورات هائلة. ولكن في نفس الوقت تتقدم الإدارة الأمريكية باقتراح مماثل للنظام الحالي الذي لا يريد ان يرحل... غير المعقول ان يتقدم النظام الحالي بخطة الطريق او الدستور الإنتقالي... على جموع الشعب المحتجة ان تتقدم به الى اخوانها المشلولين وليس الى النظام، فنحن لا نريد موافقة النظام على خلع نفسه، نحن نسعى الى ثقة من اكبر قدر من المواطنين الراغبين فعلا في التغيير. والعالم الخارجي، اوروبا وامريكا بالتحديد، مهمين جدا لنجاح هذه الثورة الهادرة النبيلة، فمصالح العالم في مصر متشعبة ومعقدة وكثيرة و كما قال تشومسكي لا يمكن ان يغامروا بها، فانا اعي ان ما ساند هذا الدكتاتور لقرابة عقدين وحماه من السقوط هو العالم الأول وليس فقط قهر الشعب المصري اوطبيعته الصبورة، وعندي قناعة ان ما يمنع النظام من السقوط الآن انما هو ايضا خوف عند العالم الأول مماثل لخوف المصدومين من الشعب، لقد راى العالم ايضا جنون الخراب في اعين النظام وتجذره وتغلغله، ولذلك فبالرغم من قناعة العالم ان استقرار مصر وبالتالي استقرار مصالحه في المنطقة، يكمن في سقوط هذا النظام، الا انهم هم ايضا، يخافون من الأرض المحروقة ومن الديمقراطية الحقيقية في آن. اي ان جزء كبير من المعارضين لنظام مبارك في صفوف الشعب يلتقون مع النظرة الأمريكية الأوربية، ويعانون من الفزع امام الفوضى لأسباب مختلفة ونوايا مختلفة