إن أهم ما يجب ألا نتغافله في أسباب رفضنا لهذا القانون هو الوضع الدستوري له ومدي مخالفته للمبادئ الدستورية · إن الافتئات علي حقوق الناس وعدوان السلطة علي حرياتهم وتقليصها يفتح الطريق لممر غير آمن للثورة مرة أخري في مصر كثرت منذ نجاح ثورة الشعب في مصر خاصة في الأيام الأخيرة بعض التلميحات التي تشي بالتراجع والتباطؤ في اتخاذ الإجراءات الكفيلة لتحقيق أهدافها، ومواصلة مسيرتها عملياً علي أرض الواقع بما يتناسب وحجم التضحيات التي بذلت، فضلاً عن حجم الوعود البراقة التي سكنت قلوب ووجدان عامة المصريين من اعتراف الجيش بالمطالب المشروعة للثورة، وأنه متفهم تماماً لكل المظالم التي عاني منها العباد في ظل النظام البائد. ومع يقيني ويقين العالم بأثره بما ذلك القوات المسلحة بأن ما حدث في مصر هو ثورة بكل المعايير من الثورات المؤسسة لحركة التاريخ الإنساني في استرداد حريته وكرامته ضد فرض الوصاية علي العقل العام، وتزييف وعي الناس بما كان يروجه النظام لتقييد هذا العقل وتكبيله من خلال منظومة من القوانين التي تحرم حق إبداء الرأي علانية، وسد كافة المنافذ أمام حركة الجماهير من خلال التجمع والتظاهر بآلة أمنية عاتية وقاهرة، هي ثورة علي أصنام الفكر التي قيدت الشباب، وجعلتهم ينتفضون من أجل الانعتاق من تلك الأصنام التي أهانت كرامة الشعب، وحولته إلي قطيع يساق بعصا القمع والإرهاب، وجعلته شعباً من القصر الذين لا يفلح معهم إلا ديمقراطية من تولي أمرهم وبشروطه وفي أقل الحدود وأضيقها، أو بما تم توصيفه بالديمقراطية الورقية ولما كان للثورة منطقها كما عرفها التاريخ، كما أن لها قانونها الخاص الذي يحميها، ويقويها، وللثورة أيضاً إجراءاتها التي ترتبط بالفعل الثوري ذاته بوصفه فعلاً خارقاً لكل النواميس والقوانين التي ارتضاها الشعب في مرحلة سابقة عليها، وللثورة أيضاً منهجها الذي وصفته أدبيات سوسيولوجيا الثورة ذلك المنهج العابر لحدود الزمان والذي يجعل الأمة أثناءها يقطع في خمس سنوات مسافة أكبر مما تقطعه في قرن خلال الظروف العادية، وأخيراً فإن للثورة قواها الحامية لها والتي تتشكل من الجماهير الغفيرة من عامة الناس الذين كانوا يعيشون في ظل الظروف السابقة غرباء عن السياسة بسبب القهر المفروض عليهم، إلا أننا نلاحظ أن السلطة التي شاء لها أن تعتلي مقاليد الحكم لا تدرك أياً من هذه المعاني أو المضامين حتي هذه اللحظة، ولا تعمل وفق منهج أي ثورة، بل وفق منطق ومنهج الذين ثار الشعب ضدهم، يتجلي ذلك في حالة التباطؤ والتهاون في اتخاذ الإجراءات الثورية الحاسمة والرادعة لعتاة الفاسدين ومحاكمتهم محاكمة شعبية وفورية بداية من كبيرهم وانتهاءً بخدامهم من حملة المباخر في أجهزة الإعلام، ومنسقي الحملات القومية للتوريث من أرباب التزوير وآكلة المال العام الذين سمموا الحياة العامة في مصر. ولقد أدي هذا التقاعس والتباطؤ إلي محاولة لملمة النظام القديم لفلوله فيما يعرف بالثورة المضادة، التي بات أمر نجاحها مرهوناً بحجم السكوت والتباطؤ في اتخاذ إجراءات من شأنها تأمين الثورة. وبدلاً من اتخاذ الإجراءات التي يكفلها منطق الشرعية الثورية الذي لا يقف أمام أي نصوص دستورية أو قواعد قانونية لنظام تداعي وانهار نفاجئ بأن عصا السلطة قد هوت علي رأس الجميع بمشروع لقانون يجرم بعض حالات الاحتجاج والاعتصام والتجمهر والتعبير عن الرأي بعقوبة تصل مدتها سنة أو غرامة تصل إلي 500 ألف جنيه، وهنا فإن إقدام السلطة القائمة علي الشروع في إصدار مثل هذا القانون يقوض كل الادعاءات التي روج لها من قبل عن احتضان الثورة وأحقية ومشروعية مطالبها ويجعلنا نردد المثل الدارج "إيش تعمل الماشطة في الوش العكر". الذي هو وجه السلطة في أي زمان ومكان، خاصة إذا كانت مفروضة بفعل الظرف التاريخي، فالسلطة أي سلطة لا تتورع عن استخدام القانون الظالم إذا اتفق مع مصالحها وتوجهاتها مهما حاولت أن تجمل نفسها، أو أن تعتذر عن ممارسات هي في الأصل تعبيراً عن أهدافها المضمرة وغير المعلنة، وتعلمنا الخبرة التاريخية أن أخطر لحظة علي السلطة السيئة هي تلك اللحظة التي تسعي فيها لتحسين صورتها بالاعتذار أو الإنكار لممارستها كما يحدث الآن. وبسبب استمرارية هذه الملابسات، وضبابية الرؤية لم نعد نملك القدرة علي حكم واضح وصريح إزاء تلك الممارسات التي تبدو كأنها ضرب من العناد وألفناه من جانب النظام الذي سقط. بدت شواهده في الإصرار علي المضي عنوة واقتدار في الجدول الزمني المفترض لتنفيذ استلام السلطة لرئيس منتخب بغض النظر عما يترتب علي هذا العناد من آثار علي مستقل الثورة من إجهاد وإجهاض حسب التعبيرات الشائعة الآن. بدا العناد واضحاً أيضاً في تبديل أولويات المواجهة فبدلاً من أن تكون باكورة قوانين السلطة الحالية موجهة ضد رأس النظام بما يتفق وروح الثورة وشرعيتها وجدنا عصا القانون واجبة وحاضرة ضد الشعب بالقانون وهذا أمر مستغرب أن يفرض الصمت علي الجماهير المتعطشة للحرية باسم القانون وقوته وهو أمر مرفوض كلية في هذه الظروف لعدة اعتبارات بعضها يتعلق بقضية الحريات عموماً وما تفرضه الضرورة الاجتماعية والسياسية لتعزيزها وصونها وحمايتها أولاً وثانياً لكون هذا القانون يندرج ضمن منظومة تشريعية استبدادية وهي منظومة القوانين السالبة للحرية والتي توصف بكونها قوانين سيئة السمعة، أو قوانين الإرهاب الفكري ولست في معرض بيان خطورة مثل هذه القوانين علي إعاقة التطور الديمقراطي الذي نطالب به، أو بسبب عدم مواءمتها للظرف الثوري الذي ينبغي أن يكون فيه القانون أداة للحرية وإتاحتها، وليس أداة للقهر وسيادته، وإنما أنبه إلي استناد مثل هذا القانون إلي نوع من الفقه القانوني الذي يتأسس علي فكرة إهدار العقل وتغييب الضمير، وفرض المظالم علي الناس بمنعهم من التعبير وترهيبهم من أي إبداء للرأي يتعلق بظروفهم ومستقبلهم، فضلاً عن تطبيقاته التي يشوبها عوار قانوني ودستوري، حيث الأفعال المؤثمة في مثل هذه القوانين هي جرائم فضفاضة ويصعب الوصول إلي رأي قاطع فيها ويخضع العقاب فيها لتقدير القاضي نظراً لعدم وجود حدود لتجريم الرأي مما يؤدي إلي التعسف في وسيلة العقاب. ولما كانت الديباجة التي صدرتها وسائل الإعلام عن أن هذا القانون سوف يستخدم فقط في بعض الحالات فقط في مؤسسات الدولة وتجمع العاملين فيها فإننا نقول إن هذا هو الضلال بعينه، لأن هذه الفئات هي التي وقع عليها كل أنواع الظلم، وهي أكثر الفئات التي حرمت وتطالب الآن بحقوقها، ثم باسم القانون نمارس تضليلاً وتزييفاً لوعيهم من خلال الزعم بأن هذا التجمهر والتجمع يضر بالصالح العام وهي عبارات عايشناها ومثلت قناعاً للفساد والإفساد للسلطة وقهراً وافتاء علي حق الناس في الحرية سنين طوال. إلا أن أهم ما يجب ألا نتغافله في أسباب رفضنا لهذا القانون هو الوضع الدستوري له ومدي مخالفته للمبادئ الدستورية، فضلاً عن مخالفته للمبادئ التي أرستها أحكام المحكمة الدستورية العليا فيما يتعلق بقضايا الحريات عموماً، وحرية الرأي والتعبير بالذات باعتبارها القاعدة الأم في تأسيس الديمقراطية، وحيث استقرت جملة من المبادئ بالنسبة لأحكام المحكمة الدستورية فيما يتعلق بهذا الحق، ومن جملة هذه المبادئ وفي مقدمتها عدم دستورية أي قيود تقع علي حرية الرأي والتعبير، وأن الدستور يصون حرية التعبير طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة، وأخيراً تري المحكمة الدستورية ضمن مبادئها الاعتراف بالضرورة الاجتماعية لحرية النقد وإباحته في المجتمع، بل إن المحكمة الإدارية العليا أيضاً حينما أباحت حق الشكوي لأوجه المصلحة العامة في أحد أحكامها قد أباحت حق ممارسة حرية الرأي والتعبير بلا قيود. ولا شك أن الأساس القانوني الذي تنطلق منه مبادئ المحكمة الدستورية في نظرتها لحرية الرأي وحرية التجمع والتظاهر يستند إلي ما تمثله هذه الحقوق من تعزيز الديمقراطية باعتبارها البنيان الواقي للحرية. إن الافتئات علي حقوق الناس، وعدوان السلطة علي حرياتهم وتقليصها يفتح الطريق لممر غير آمن للثورة مرة أخري في مصر، ويمهد الطريق أمام الهجمات المرتدة ممن أضيرت مصالحهم وكأنه قد كتب علي التطور الديمقراطي في مجتمعنا أن يتخبط في دائرة جهنمية في اتجاه النكوص رغم ثورة الشعب.