منذ نعومة أظافري وأنا أعايش حالة عشق خاص للفلسفة ، كنت أجد ذلك شئ طبيعي لكون والدتي هي الأستاذة الدكتورة آمنة نصير أستاذ الفلسفة . وعندما درسنا الفلسفة في المرحلة الثانوية كنت أجد كثيراً من الزملاء يتعاملون مع هذه المادة بريبة وعدم ارتياح بحسبانها وسيلة ناجحة للتشويش علي العقل . فكرت أن أتخصص في دراستي الجامعية في هذا العلم المحرك لمياه العقل الراكدة ، لكن عشق القانون وعلوم الشريعة غلبتني علي أمري وقادتني إلي كلية الحقوق .. مع تقدم السن ورصيد الخبرات استيقنت أن مصطلح الفلسفة منذ القرن الثاني الهجري وحتى اليوم مازال مصطلحًا مشبوهًا، منبوذًا، محاطًا بإرث تاريخي يُلاحق الكلمة باعتبارها بوابة للفتنة والبغي والانحراف، أو في أخف الأحوال يغلف النظر إليها بعين مليئة بالارتياب. حين بدأت بواكير العصر الذهبي للعقل الإسلامي في مطلع القرن الثالث الهجري وكان فاتحة الخير فيها حركة الترجمة التي أشعلها المأمون العباسي من خلال مؤسسة بيت الحكمة في بغداد التي كانت أول جامعة في التاريخ تربط بين الحضارة اليونانية والإسلامية، وبدأت الترجمات من اليونانية والفارسية والسريانية إلى العربية تترى، والمأمون يكافئ كل مترجم بوزن الكتاب الذي يترجمه ذهبًا، بدأت تتغلل أفكار فلاسفة الإغريق إلي العقل العربي الجامد ، ظهرت في بغداد المذاهب الكلامية، التي انفتحت على منهج عقلي يغوص في ما ورائيات الوجود، في ظل بيئة علمية يسيطر عليها النظر الفقهي المادي الذي يتعامل مع أحكام المكلفين؛ بوصفها حالة مادية، بعيدًا عن عالم الميتافيزيقيا والرؤية الكليَّة للكون؛ فجاءت كالمطر في أرض عطشى تشرَّبتها بقوة... ومن هنا بدأت معركة الشد والجذب بين العقل الفقهي التقليدي والعقلية الفلسفية التي تخترق الحجب المادية .. جاء دور علم الكلام ليسعى إلى تأسيس النظر العقلي في الله عز وجل ، لينتقل بالعقل العربي من دائرة التقليد في العقائد إلى اليقين بها ، وكان ذلك هو البداية الأولى لممارسة الفلسفة في البيئة الإسلامية، مع الأخذ في الحسبان أن علم الفلسفة أشمل وأوسع، لا ينحصر فقط في جانب الإلهيات، وإنما يدخل في كافة العلوم . بل وفي مرحلة تاريخية كانت الفلسفة هي المعنى المقابل للعلم، فشملت الفلسفة بجلبابها الواسع العلوم العقلية والنظرية والتجريبية؛ فهي في بعض تعريفاتها: منهج شامل يسعى إلى الوصول للحقيقة دون التقيد بمسلَّمات مسبقة. في فترة انتعاش الجدل الكلامي الذي بدأت منذ نهايات القرن الثاني الهجري، كان هجوم الفقهاء عنيفًا ضد الموروثات والأصول الثقافية التي أمدت علم الكلام بالازدهار، وبالطبع على رأسها الفلسفة اليونانية .. أثر ذلك أن نشأ شبه إجماع بين فقهاء المذاهب الأربعة على كراهة الفلسفة والتي تعارف عليه الناس بعلم الكلام ، بل والقول بتحريمها أحيانًا، ويصل الأمر إلى حد الإقصاء والملاحقة عند الإمام الشافعي الذي قال: منهجي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد ، وفي رواية أخرى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. وضع علم الكلام في مواجهة مباشرة مع الكتاب والسنة ، فإما أن تكون مؤمنًا ملتزمًا نقيًّا من شرور هذا العلم، أو تنغمس فيه وتتهم بالزندقة، ولذلك يروى عن الإمام أحمد قوله: علم الكلام زندقة، وما ارتدى أحد بالكلام إلا كان في قلبه دغل على أهل الإسلام؛ لأنهم بنوا أمرهم على أصول فاسدة أوقعتهم في الضلال. مبكراً تم وضع الدين في مواجهة مع علم الكلام أو الفلسفة ، ونسب اليها كل شر ، فبجذورها نشأت الفرق والبدع، وخاض الناس في أسماء الله وصفاته بعقولهم ، وانتهى الحال بعلم الكلام . حديثاً توسع محمد إقبال فهاجم وانتقد ما يوصف بأنه المرجع والمؤسس ل"علم الكلام"، (الفلسفة اليونانية)، فقال: صحيح بأنها (أي الفلسفة اليونانية) وسعت من آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، إلا أنها غشت على أبصارهم في فهم القرآن، والسبب في ذلك هو اختلاف نهج القرآن عن نهج الفلسفة اليونانية، فالمعرفة عند المسلمين تبدأ من المحسوس، وتنزع إلى الملاحظة، بخلاف المنهج الإغريقي الذي انحصر في الاستنباط من مقدمات جاهزة، وابتعد عن الطبيعة المحسوسة . ومن هنا بدأت المواجهة العقائدية والفقهية ، وتوسعت من علم الكلام إلى كافة فروع الفلسفة ، فسحبت الأوصاف المطلقة على المنشغلين بعلم الكلام، وعممت جميعًا على المنشغلين بالفلسفة، واعتبر الحقلان في مسار واحد كلاهما يؤدي إلى ذات النتيجة. لدرجة وصف فيها الشيخ عبد القاهر الجرجاني وهو من أعيان فقهاء الشافعية الفلسفة بالكفر، وأدرج المنشغلين بها في عداد أهل الأهواء الخارجين على ملة الإسلام، فهم من الكفرة الذين لا تؤخذ منهم الجزية ويقتلون !! وفي كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي، قال موجِّها انتقادًا شديدًا للفلاسفة: إنما تمكن إبليس من التلبيس على الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم، وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات للأنبياء . أما ابن القيم الجوزية فيصف المنشغلين بكلام المعلم الأول ( أرسطو) بأنهم ملاحدة، حيث قال في (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)، : "والمقصود أن الملاحدة (أي الفلاسفة) درجت على أثر المعلم الأول (أرسطو)، ثم انتبهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني (أبي نصر الفارابي).. الذي كان على طريقة سلفه من الكفر بالله تعالى، وملائكته ورسله واليوم الآخر !! وإذا كانت الفلسفة تقوم في جوهرها وأصلها على تحرير العقل واستعماله بدون قيد، لكن الشهرستاني في مقدمة كتابه (الملل والنحل) قال بأن أول شبهة وانحراف وقعا هي حين عصى الشيطان أمر ربه؛ وسبب ذلك أنه استعمل العقل والحجة ولم يكتف بالتسليم.. لذلك -وفقًا للشهرستاني- فإن كل انحراف وشبهة سببه هو إعمال العقل، "فشبهة إبليس لعنه الله مصدرها استبدادها بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر". وستظل المعركة مشتعلة بين الفلاسفة والفقهاء إلا من رحم ربي .. وأدرك أن السبيل بينهما مفتوح للاتفاق بين أعمال العقل للوصول للفهم الأصوب للنص