توجه الحكمان الاشعري وعمرو إلي منطقة « دومة الجندل » .. اختيرت هذه المنطقة جغرافياً كمكان وسط بين « العراق والشام » أي بين عليّ ومعاوية .. لكن اختيار التاريخ لها كان لشأن آخر .. فقد سطر التاريخ علي أرضها مهزلة تحويل التاريخ الإسلامي وقذفه في اتجاه الهاوية .. فما بين « صفّين » و « دومة الجندل » انفجرت كلُّ أسباب النكبة في حضارة الإسلام، طفحت علي السطح كل دمامل الجسد الإسلاميّ بعد أن ظلّت مستورة لما يزيد عن ربع قرن من الزمان . وأرسل الإمام عليا مع الأشعري أربعمائة رجل ، وجعل عليهم رجل من ثقاته الأتقياء يدعي شريح بن هانئ الحارثي ، وبعث عبد الله بن عباس يصلي بهم ويلي أمورهم .. في حين بعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل . وطول طريق السير لم تنقطع الكتب من بين الحكمين و بين علي ومعاوية .. فكان إذا وصل الرسول من علي بشيء أتاه أهل الكوفة فقالوا للأشعري : ما الذي كتب به إليك أمير المؤمنين ؟ فيكتمهم .. فيقولون له : كتمتنا ما كتب به إليك ، إنما كتب في كذا وكذا .. في المقابل يجيء رسول معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يدري في أي شيء جاء ولا في أي شيء ذهب ، ولا يسمعون حول صاحبهم لغطا . ضج الحبر ابن عباس بذاك وقال : إذا جاء رسول قلتم بأي شيء جاء ، فإن كتمكم قلتم لمتكتمنا ؟ جاء بكذا وكذا . فلا تزالون توقفون وتقاربون حتى تصيبوا ، فليس لكم سر . دقت ساعة الحسم وأستعد الحكمان للدخول في المداولة النهائية .. ذهب شريح إلي الأشعري فقال له : يا أبا موسى ، إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه ، ولا يستقال فتقه ، ومهما تقل شيئا لك أو عليك يثبت حقه ويرى صحته وإن كان باطلا ، وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكها معاوية ، ولا بأس على أهل الشام إن ملكها علي . وقد كانت منك تثبيطة أيام قدمت الكوفة ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا ، والرجاء منك يأسا .. كلمات شريح حاسمة واضحة كأنها تقرا سطور الغيب لا خوف علي أهل الشام من حكم علي .. والخوف داهم علي أهل العراق من حكم معاوية .. وقد كان . انتحي بالأشعري الأحنف بن قيس أحد دهاة أهل العراق فأوجز له نصيحة في كيفية إدارة المباحثات مع عمرو ابن العاص .. فقال له : يا أبا موسى ، اعرف خطب هذا الأمر ، واعلم أن له ما بعده ، وأنك إن أضعت العراق فلا عراق . فاتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك ، وإذا لقيت عمرا غدا فلا تبدأه بالسلام ، فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها ، ولا تعطه يدك فإنها أمانة وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة . ولا تلقه وحده ، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ فيه الرجال والشهود . فقال له أبو موسى : قد سمعت ما قلت . ولكنه لم يعير هذا الكلام حقه . فهم الأحنف بذكائه حقيقة ضعف الأشعري ، فأتى عليا وعرض عليه تقييمه الدقيق للموقف ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخرج والله أبو موسى زبدة سقائه في أول مخضه ، لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك . فقال علي : يا أحنف ، إن الله غالب على أمره . قال : فمن ذلك نجزع يا أمير المؤمنين . في خيمة التحكيم سرعان ما وجه عمرو دفة المباحثات .. أنساق الشيخ الأشعري بصورة كاملة لدهاء ابن العاص .. والأدهي والأمر أنه من اللحظة الأولي تلاقت الإرادتان على إقصاء الإمام الشرعي ابو السبطين عليّ . مسار سريع للأحداث .. غموض في سير المباحثات . الحكمان يغلقان عليهما باب الخيمة ساعات طويلة من النهار .. في داخل الخيمة التي جرت فيها المباحثات لم يواجه عمرو بن العاص داهية العرب أيّة صعوبة في احتواء عقل أبي موسى البسيط البعيد عن فهم دروب السياسة ، قاده بسلاسة إلي النقطة التي يريد. لقد أدرك ابنُ العاص كيف يتغلغل في أعماق صاحبه ويأخذ بناصيته. وبدأ سير المحادثات كما وصفها المؤرخين : عمرو بن العاص يتفنّن في إبراز الإجلال لأبي موسى فيقول: صحبتَ رسول الله قبلي، وأنت أكبر سنّاً مني.. قال الأشعري وهو يدخل في صُلب الموضوع: يا عمرو! هل لك فيما فيه صلاح الأمّة ورضى الله ؟ فيقول عمرو : ما هو ؟ فيقول الأشعري : نولّي عبدالله بن عمر، فإنّه لم يُدخِل نفسه في شيء من هذه الحروب. قال عمرو بدهاء : أين أنت من معاوية ؟ فيقول الأشعري : ما معاوية موضعاً لها، ولا يستحقّها بشيءٍ من الأمور. فيقول عمرو :ألستَ تعلم أن عثمان قُتِل مظلوماً ؟ فيقول الأشعري : بلى . فيقول عمرو : فإنّ معاوية وليّ عثمان، وبيته بَعْدُ في قريش ما قد علمتَ، فإن قال الناس: لمَ ولّي الأمر وليست له سابقة ؟ فإنّ لك في ذلك عذراً تقول: إنّي وجدته وليَّ عثمان والله تعالى يقول: ومَن قُتِل مظلوماً فقد جَعَلْنا لوليّه سُلطاناً .. وهو مع هذا أخو أمّ حبيبة زوج النبيّ .. وهو أحد أصحابه.. فينتفض أبو موسى: اتّق الله يا عمرو.. أمّا ما ذكرتَ من شرف معاوية، فلو كان يستوجب بالشرف الخلافة، فكان أحقّ الناس بها أبرهة بن الصباح ؛ فإنّه من أبناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض وغربها.. ثمّ أيّ شرف لمعاوية مع عليّ بن أبي طالب ؟! وأمّا قولك أنّ معاوية وليّ عثمان فأولى منه ابنه عمرو ابن عثمان بن عفان ، ولكن إن طاوعتَني أحيَيْنا سنّة عمر بن الخطاب وذِكره بتوليتنا ابنه عبد الله الحَبر.. وهنا ينبري ابن العاص ليدفعه بالاتّجاه البعيد: فما يمنعك من ابني عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته ؟ فيقول الأشعري : إنّ ابنك رجلُ صِدق، ولكنّك قد غَمستَه في هذه الحروب غمساً.. هلمّ نجعلها للطيّب بن الطيّب عبد الله بن عمر. فيقول عمرو: يا أبا موسى، إنّه لا يصلح لهذا الأمر إلاّ رجلٌ له ضرسان.. يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر. فيقول الأشعري : ويحك يا عمرو! إنّ المسلمين قد أسندوا إلينا أمراً بعد أن تقارعوا بالسيوف وتشاكّوا بالرماح ، فلا نردّهم في فتنة. وتظاهر عمرو بن العاص بأنّه يبحث عن حلّ : فما ترى ؟ قال الأشعري: أرى أن نخلع هذين الرجلَين عليّاً ومعاوية، ثمّ نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من أحبّوا. وكاد عمرو أن يصفّق فرحاً، لكنه بدهائه تظاهر بصمت المغلوب : رضيتُ بذلك وهو الرأي الذي فيه صلاح الناس. وبالرغم من كلّ التحذيرات حول مكر ابن العاص وغدره ، ولكنّ الأشعري كان قد أصمّ أُذنيه عن سماع أيّة نصيحة . وجاء اليوم الموعود لإعلان نتيجة المفاوضات علي الجمع المؤتلف بالمسجد في دومة الجندل .. وكان يوم قارص البرودة تعوي رياحه .. ها هو الأشعري يتقدم ليرقى المنبر ويُعلن ما اتّفق عليه الحكمان .. الكل يحبس أنفاسه .. لا تكاد تسمع لهم همساً .. فقط صوت صفق الرياح يدوي في المكان كأنه ينذر بما هو آت .. اللحظة الحاسمة التي يرتقى فيها الأشعري المنبر ليخلع عليّاً هي لحظة رهيبة، تعيد لتاريخ البشرية لحظة قتل قابيل أخيه هابيل ، ولحظة أن دلّ الاسخريوطي فيها على ابن مريم .. وللرواية بقية بمشيئة المولي إن كان في العمر بقاء .