الشمس في كبد السماء و الإمام علي يجلس في خيمته وحيداً . يدخل عليه الأشعث بن قيس ويبادره القول : يا أمير المؤمنين ما أرى الناس إلا وقد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن . فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد . نظرت ما الذي يسأل .. فقال الإمام علي وقد غلبه الهم والضجر : ائته إن شئت . فأتاه فسأله . فقال : يا معاوية لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟ قال معاوية : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله في كتابه فابعثوا منكم رجلاً ترضون به . ونبعث منا رجلاً ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه . فقال الأشعث : هذا هو الحق . فانصرف إلى علي وأخبره بالذي قال ، وقال الناس قد رضينا . وقبلنا . فبعث علي قراءاً من أهل العراق. وبعث معاوية قراءاً من أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف فنظروا فيه وتدارسوه . واجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن . ثم رجع كل فريق إلى أصحابه ، وقال الناس . قد رضينا بحكم القرآن . فقال أهل الشام : فأنا قد رضينا .. فقال معاوية ولقد اخترت عمرو بن العاص حكماً . وقال الأشعث والقرآء الذين صاروا خوارج فيما بعد فانا قد رضينا واخترنا أبا موسى الاشعري . وأسرعوا وحملوا خبر اختيارهم إلي علي .. فقال لهم علي : إني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه . فقال الأشعث ، وزيد بن حصين ، ومسعر بن فدكي . في عصابة من القرآء والخوارج . إنا لا نرضى إلا به ، فانه قد حذرنا ما وقعنا فيه . فقال علي : فانه ليس لي برضاً . وقد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب حتى أمنته بعد أشهر . ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك . فارتفعت أصوات : والله لا نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ، ولا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء . ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر . قال علي : فاني اجعل مالك الأشتر . فقال الأشعث : وهل سعر الأرض علينا غير الأشتر .. وهل نحن إلا في حكم الأشتر . فقال علي : وما حكمه قال الأشعث : حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد . فأجابه علي : إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص . وانه لا يصلح للقرشي إلا مثله ، فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به . فان عمرو لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله . ولا يحل عقدة إلا عقدها ولا يبرم امرأ إلا نقضه . ولا ينقض امرأ إلا أبرمه . هكذا السياسة يا قوم . فقال الأشعث . لا والله لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة ، ولكن اجعله رجلاً من أهل اليمن . إذ جعلوا هم محكمهم من مضر . فقال علي : إني أخاف أن يُخدع يمنيكم، فإن عمرواً ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى . فقال الأشعث مسفراً عن عصيبة مقيتة : والله لأن يحكما ببعض ما نكره . وأحدهما من أهل اليمن . أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريان .. فقال علي : إذا فليكن الأحنف بن قيس التميمي .. فقالوا : لا يكون إلا أبا موسى الاشعري . فقال علي : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا نعم . فقال لهم متبرماً ضجراً من مخالفتهم له : فاصنعوا ما أردتم. على أن يحكما بما في كتاب الله ، وكتاب الله كله لي ، فان لم يحكما بما في كتاب الله فلا حكم لهما .. وصيروا الأجل إلى شهر رمضان . على أن يجتمع الحكمان في موضع بين الكوفة والشام يسمى دومة الجندل . المتأمل للمشهد بعد صفين وما جري من خدعة التحكيم يستيقن أن التاريخ يُعيد نفسه ، فتظهر الحوادث وكأنّها قد انبعثت من جديد، حتّى في بعض التفاصيل.. فمنذ وضعت الحرب أوزارها في صِفّين، بدأ الإعداد لتوقيع وثيقة سلامٍ بين الفريقَين المتصارعَين؛ وهنا يُطلّ التاريخ ليُعيد ذكريات صلح قديم بين الإسلام والوثنيّة، في وادي الحُديبية قريباً من مكّة المكرّمة. يومئذ أرسل أبو سفيان سُهيل بن عمرو ممثّلاً للوثنية لتوقيع معاهدة سلام مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ؛ واليوم بعث معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ممثّلاً للخارجين علي الخليفة الشرعي لتوقيع هُدنة .. جاء عمرو ودخل خيمة الإمام، وبدأ الكاتب قيس بن سعد بن عبادة في تحرير وثيقة التحكيم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وهنا تدخّل عمرو بن العاص معترضاً على الكاتب: هو أميرُكم.. أمّا أميرنا فلا ..بل اكتُب اسمه واسم أبيه. فزع قيس بن سعد وقال : لا تمحوا أمير المؤمنين.. يا أمير المؤمنين. فقال عليّ : الله أكبر، سُنّةً بسُنّة رسول الله.. واللهِ إنّي لكاتب رسول الله ( ص ) يوم الحديبية. فكتب محمّد رسول الله، فقالوا: لستَ برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فأمرني رسول الله أن أمحوها فقلتُ: لا أستطيع، فمحاها بيده.. ثمّ قال لي: إنّك ستُدعى إلى مثلها فتُجيب. تناول الإمام وثيقة التحكيم ومحا عبارة أمير المؤمنين منها بيده .. فقال عمرو بن العاص بدهاء وهو ينظر إلي الإمام علي : سُبحان الله ! أتُشبّهُنا يا علي بالكفّار ونحن مؤمنون. فقال عليّ بغضب: يا ابن النابغة ! ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً وللمؤمنين عدوّاً ؟! فنهض ابن العاص منزعجاً: واللهِ لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم. أجاب الإمام: إنّي لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ومن أشباهك. وهكذا حُرّرت وثيقة التحكيم .. ها هو عليّ يجلس في خيمته ليوقع وثيقة التحكيم يوم الأربعاء 13 صفر سنة 38 ه .. بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.. قاضي عليّ على أهل العراق ومَن معهم وقاضي معاوية على أهل الشام ومن معهم.. إنّنا ننزل عند حُكم الله وكتابه.. فنُحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحَكَمان في كتاب الله وهما أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص عَمِلا به، وما لم يجدا في كتاب الله فالسُنّة العادلة. وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندَين المواثيق أنّهما أمينان على أنفسهما وأهلهما، والأمّة أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وأجّلا القضاء إلى شهر رمضان من هذه السنة ، وإن أحبّا أن يُؤخّراه أخّراه. وهنا يبرز مرة أخري وجه الخوارج القبيح .. فيعد أن حمل قادتهم الإمام علي التحكيم وأرغموه علي قبول أبو موسي الأشعري .. انقلب الخوارج يعارضون التحكيم بل ويكفرون فارس الإسلام علي .. فها هو الأشعث بن قيس يأتي بالصحيفة يقرؤها على الناس فرحاً مسروراً . حتى انتهى إلى مجلس لبني تميم فيه جماعة من زعمائهم . منهم عروة بن الزبير التميمي ، وأخوه مرداس الخارجي . فقرأ عليهم . فقال له عروة ابن أدية : أتحكمون في دين الله وأمره ونهيه الرجال ؟ لا حكم إلا لله .. فكان أول من قالها وحكم بها ، سبحان مغير الأحوال والأهواء .. الم يكادوا يقتلون علياً بالأمس القريب لرفضه وقف القتال .. وكادت أن تقع بين النزارية واليمانية حرب ضروس ،لاختلاف كلمتهم في الديانة والتحكيم . وارتجل الخارجى صالح بن شقيق ، وكان من رؤساء قبيلة مراد فقال : ما لعلي في الدماء قد حكم .. لو قاتل الأحزاب يوماً لظلم وصاح ، لا حكم إلا لله ولو كره المشركون .. وتصايح قومه بمثل ما صاح به . ونادى فتيان لا حكم إلا لله ، وكان عددهم أربعة آلاف فتي وصبي .. سرعان ما خرج منهم فتيان وهما معدان وجعد وحملاً على أهل الشام بسيفيهما . وهم يهتفان لا حكم إلا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين فقاتلا حتى قتلا على باب رواق معاوية .. وتعالت الصيحات مرة أخري في معسكر العراق لا نحكم الرجال في دين الله .وكثر اللغط . وتباغض القوم جميعاً . وصار يبرأ الأخ من أخيه والابن من أبيه .. وعمت الفوضى معسكر علي . هنا أمر علي بالرحيل لما رأى الحال هذه ، وتفاوت الرأي وعدم النظام لأمورهم . وما لحقه من الخلاف منهم ، وكثرة التحكيم في جيش أهل العراق ، وتضارب القوم وبالمقارع ونعال السيوف . ولام كل منهم الآخر في رأيه . صاح جماعة الحكم لله يا علي لا لك . لا نرضى بأن تحكم الرجال في دين الله أن الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم ، وقد كانت منا زلة حين رضينا بالحكمين . فرجعنا عليهم ، وقد كانت منا زلة حين رضينا بالحكمين . فرجعنا وتبنا .. فارجع أنت يا علي كما رجعنا . وتب إلى الله وإلا برئنا منك . فقال علي : أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع . أوليس الله تعالى قال : أوفوا بالعهود .. وقال: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون . فأبى الإمام على أن يرجع .. وأبت الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن فيه . وبرأت الخوارج من علي .. وبريء منهم . وبعد توقيع الوثيقة انسحبت الجيوش ، توج الإمام عليّ إلى الكوفة، ورفضت بعض الفصائل دخول الكوفة و « خرجت » عن طاعة الإمام علي .. ومنذ تلك اللحظة وعليّ يتلقّى الطعنات المسمومة .. فيتأوّه وحيداً. وللحديث بقية بمشيئة الله إن كان في العمر بقاء .