وبعدها تراضي الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات علي التحكيم وهو أن يحكم كل واحد من الأميرين علي ومعاوية رجلا من جهته ثم يتفق الحكماء علي ما فيه مصلحة المسلمين، فبعث معاوية عمرو بن العاص وبعث علي بأبي موسي الأشعري، ثم كتب علي بن أبي طالب كتاباً بموافقته علي التحكيم ثم أعطاه للأشعث بن قيس الذي مر علي جماعة من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن جرير من بني ربيعة بن حنظلة فقال: أتحكمون في دين الله الرجال، وقد أخذ هذه الكلمة من الرجل طوائف من أصحاب علي من القراء سالفي الذكر وقالوا لا حكم إلا لله فسموا (المحكمية). ولما رجع علي بن أبي طالب إلي الكوفة اعتزل من جيشه ما يقرب من اثني عشر ألفا وهم الخوارج وكان من أمرهم ما كان فقد كفروا علي بن أبي طالب ومعاوية وجميع الصحابة واستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم ثم قاتلهم علي بن أبي طالب بعد ذلك وهزمهم وكسر شوكتهم فلم تقم لهم قائمة بعدها أبدا. ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع كل ما لخصناه وذكرناه بالحرف الواحد دون زيادة أو نقصان في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الجزء السابع المجلد الرابع الناشر دار الفكر العربي ، بالطبعة الأولي 1933م طبعة نهر النيل للطباعة ، الجيزة . وسيجد ما لخصناه موجوداً من صفحة 268 إلي صفحة 314 . إذن فإن أول من اخترع هذا الاختراع أو هذه الحيلة الخبيثة هو الماكر الأكبر عمرو بن العاص وليس الخوارج وقد تلقفها جماعة من القراء من أتباع علي وسموا بعد ذلك بالخوارج، وهذا ما ذكره بن كثير في البداية والنهاية عن بعض المؤرخين كابن جرير وبن حنبل وغيرهم يقول بن كثير: "قال أبو وائل: كنا ب (صفين) (الموقعة التي كانت بين علي ومعاوية) فلما استعر القتال بأهل الشام(معاوية وأتباعه) اعتصموا بتل، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلي علي بمصحف فادعه إلي كتاب الله، فانه لن يأبي عليك، فجاء به رجل فقال بيننا وبينكم كتاب الله). وقال بن كثير أيضا في البداية والنهاية نقلا عن بن جرير وغيره من أهل التاريخ: (إن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص وذلك لما رأي أهل العراق (علي وأتباعه) قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وان يتأخر الأمر، فإن كلا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون فقال لمعاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أري أن ترفع المصاحف وندعوهم إليها فان أجابوا كلهم إلي ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم، فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم فشلوا وذهب ريحهم" إذن يتضح لنا مما ذكره بن كثير وبن جرير وغيرهما أن حيلة رفع المصاحف كانت من بنات أفكار عمرو بن العاص الذي اشتهر باللؤم والخبث والمكر، وها هو قد استخدم المصاحف لمصالحه وأغراضه السياسية، مع أن عمرو بن العاص وصاحبه معاوية كانا لا يعرفان من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، وكان من يعلم عنهم ذلك علي بن أبي طالب وذلك حين قال لأصحابه بعد طلب أهل الشام الاحتكام إلي المصحف فيما ذكره بن كثير في البداية والنهاية علي النحو التالي: ( فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق (أتباع علي بن أبي طالب) نجيب إلي كتاب الله، وننيب إليه إلا أن عليا رد عليهم قائلا: امضوا إلي حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فان معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمه، وابن أبي السرح، والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم (ويلكم)، والله إنهم ما رفعوها لأنهم يقرأونها ولا يعلمون بما فيها وما رفعوها لا خديعة ودهاء ومكيدة، إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به وتركوا عهده ونبذوا كتابه) وبعد هذه الوقائع التي ذكرها المؤرخون يتضح لنا جليا أن دعوة رفع المصاحف والدعوة إلي التحاكم إليها كانت فكرة الداهية عمرو بن العاص وكانت دعوة لأغراض سياسية.