في أيامنا هذه ، أينما وجهت نظري و في اي مجال أري الصورة في مصر كئيبة حزينة تحطم الوجدان المصري وتدمي العيون أسفا علي ما أصاب مصر العزيزة الكريمة من ضعف وهزال وهوان وهي التي عرفها التاريخ والجغرافيا قائدة للتطور والحضارة الانسانية وحاميا ومخلصا لأمتها من القهر والضيم ..مصر لم تفقد كرامتها وعزتها بشكل يضاهي ما فقدته اليوم ففي عهد المماليك كانت قائدة وقامعة للعدوان علي الأمة ، وفي عهد محمد علي رفضت الخضوع للسلطان العثماني وانتهجت سياسة مستقلة تمليها اعتبارات المصلحة المصرية والعربية ... مصر كانت رائدة الديموقراطية البرلمانية من أواخر القرن الثامن عشر حيث وقف البرلمان أمام جبروت الخديو ورفض مرسوم حله ، ، وفي زمن الاحتلال البريطاني لم ينضو المصريون تحت جناح المستعمر بل عارضوه وحاربوه ، وفي العهد الملكي وقف البرلمان امام رغبات السراي الجامحة ، و لبت مصر نداء فلسطين وكان لها الجهد الأكبر في إنشاء الجامعة العربية . وفي عهد عبد الناصر أصبحت ماردا علي الساحة العربية و الدولية و قادت حركات التحرير وعدم الانحياز ومعركةالجنوب الفقيرمع الشمال الغني ..وصنع المواطن المصري البسيط هرما رابعا بالنصر في حرب أكتوبر ..ذلك النصر الذي ركب موجته الكثيرون من السياسيين والعسكريين حتي أجهضوه فبدلا من حصد ثماره ولد مسخا مشوها واسفر عن تسوية ذليلة مشوهة خاضع للأجنبي . لست هنا في مقام العويل والبكاء لأن مصر تحتفظ بكل أسباب القوة و العزة .. وما تصادفه الآن عرض زائل أقطع بأنه سحابة سوداء ما تلبث أن تنقشع .. ولكني أيضا لا اكتب لشيع التفاؤل البسيط الذي ينبعث من أحلام العودة للمجد الحضاري و التاريخ القديم...إن مصر في حاجة الآن لعملية غسيل شامل للأذهان والعقول ومراجعة شاملة لجوانب العمل الوطني لكي نضع اقدامنا علي بداية طريق القوة والعزة حتي نستعيد عناصر نهضتنا وننتشل بها أمتنا من مستنقع الإحباط والانبطاح . والحديث في هذا يطول ولكني سأحاول استعراض الصورة في توتالة عامة - مع الاعتذار للتعبير الدرامي- وهو مشوار مؤلم كبيس لابد من طرقه حتي يفيق البعض من خيرة نخبنا ومواطنينا من سكرتهم و احلامهم ويضعوا ايديهم علي مكامن المرض سعيا لعلاجه و التخلص منه. ولنبدأ بالسياسة الخارجية فهنا تشير الصورة إلي خلل كبير وضعف في إدارتها ، ولا نعرض هنا لأسباب ذلك توخيا للإيجاز - وانما نضع أيدينا علي ما يشوب منهجنا من قصور نابع من السذاجة حينا والطفولة السياسية التي تجسدت في استغراق الفكر السياسي العربي في خديعة ثقافة المجتمع الدولي التي حذرنا منها وطالبنا بالاقلاع عنها والعودة إلي أصول العلاقات الدولية التي تعتمد في تفاوضها مع الآخر علي قوة رادعة حقيقية علي الأرض في خلفية تساند وتدعم المفاوض العربي ، كما يرجع الخلل أيضا إلي استسلامنا للضغوط الخارجية أحيانا...وأقطع بأن المواطن العربي و المصري مستعد لدفع عمره ثمنا لتفسير مقنع لتوجهاتنا الخارجية ... ولن نذهب بعيدا في رصد بعض العبثيات لأن نصف القرن الماضي أو ما يزيد حافل بالهزائم و الأخطاء التي ارتكبتها سياسة ساذجة طفولية و بدائية - إذا افترضنا حسن النوايا- ، ولكننا نكتفي بلإشارة إلي أحدثها مما استعصي فهمه علي أعتي المحللين السياسيين ...يريد المواطن أن يعرف مثلا .. لماذا صمتنا علي العدوان علي غزة ولماذا أغلقنا المعبر في وجه المعونات الإنسانية ..لماذا صمتنا علي التوسع في الاستيطان وعن تهويد القدس والنخربة اسفل الأقصي لهدمه ..ثم عن حصاره أيام الجمع ..بل عن حصاره الأخير..لماذا خرجنا من الساحة فلم نعلم أو علمنا وصمتنا عندما حدثت خيانة تأجيل عرض تقرير جولدستون في مجلس حقوق الإنسان..لماذا أهملنا افريقيا وأجهزنا علي دورنا القيادي الكبير فيها...لماذا ضعفنا في مواجهة التلاعب الأمريكي الصهيوني الأثيوبي في مياه النيل مجري حياتنا ..لماذا تناولنا القضية في إطار دبلوماسي غير منتج بدلا من دعم المفاوض المصري بنوع من الردع القوي في حالة المساس بحصتنا ...لماذا أهملنا تعقب محاولات اسرائيل بدعم من الأردن لشق قناة البحرين التي تهدد قناة السويس وتفسد البيئة .. أما عن الداخل فلم تشهد مصر- حتي في عهد الانكشارية وتخريب السلطان العثماني سليم الأول - فسادا مستشريا وعفنا أصاب إدارتنا و مؤسساتنا مثل ما تعاني منه اليوم في ظل هجمة شرسة يقودها تحالف غير مقدس بين السلطة ورأس المال ، فأصبحت القرارات والسياسات ملكا خالصا لتفكير أمني بحت تدعمه السلطة و رجال الأعمال ، انهار التعليم وانتشر الفقر والمرض، وسلب المواطن معاشه وتأمينه الصحي ، شرب المواطن و أكل من مياه المجاري، تآكلت الطبقة الوسطي و اتسع عدد المواطنين تحت خط الفقر ، وغامر الشباب المصري اليانع بالموت غرقا في سبيل الهجرة، بل نسي بعضهم كل قناعاته وراح يطرق باب العمل لدي عدوه.. يتعاصر ذلك كله مع عجز كامل للنخب السياسية - نتيجة عزلها عن قواعدها ثلاثة عقود - التي وان جاهرت بكشف الفساد والمنادة بالحرية والديموقراطية ووقفت ضد التوريث ، الا أنها لم تخرج من أوهام رومانسية عندما تتطلع إلي إنشاء جبهات من القوي الفوقية ضد التوريث والتطبيع ، بل تمضي في رومانسيتها إلي فرض شروط علي النظام - تعلم تماما أنه لن يستجيب لها - لضمان حرية الانتخابات القادمة مثل عودة اشراف القضاة وتمضي بحسن نية في طلب رقابة دولية علي الانتخابات والكل يعلم ان الرقابة الدولية يسهل خداعها كما انها لم تمنع التزوير في أي بلد فضلا عن مساسها بعزتنا الوطنية . وتشتد الهجمة الشرسة لدعاة التطبيع فيستقبل سفير إسرائيل في مؤسساتنا الصحفية وتفرد محطة فضائية مصرية مستقلة برنامجا تطرح فيه سؤالا غريبا لا يرضي ضمير ووجدان أي مواطن وهو هل عادت علينا معارضة التطبيع بأي فائدة !!!! وتكتمل المأساة الوطنية عندما ينشغل المواطن بأن يقيم أوده ويلبي الحاجات الضرورية لعائلته ويؤمن رغيف العيش لأولاده ، عن متابعة القضايا الوطنية ويعتبر الكفاح السياسي مسئولية النخب ويلجأ الي منحي قدري عندما يقول حسبي الله ونعم الوكيل..الله سيعاقب المفسدين.. ويكتفي بالدعاء عليهم. ولقد ترتب علي ذلك بالضرورة هبوط مؤسف في مستوي الأخلاق فرأينا من الجرائم ما لم نشهده منذ قرون ، و تسلل الهبوط إلي الإبداع فحين سيطر الإعلان و رأس المال علي الفنون والأدب و الدراما والموسقي ، تحولت مصر إلي قزم وفقدت ريادتها ، و سبقتها في ذلك عدة دول عربية .يشهد علي ذلك الاسفاف الدرامي في مسلسلات رمضان و أفلام موسم العيد ، وكما قلت أصبح المواطن يبحث عن ملاذ فني ودرامي آمن فلا يجد الا الهبوط والاسفاف ، وحتي القلاع التي لم يقتحمها الإعلان بعد مثل القناة الثقافية و البرنامج الموسيقي والبرنامج الثقافي فلن تلبث أن تسقط تحت سيطرة الإعلان ...تصوروا لو استمعنا لسيمفونية لبتهوفن مقطوعة باعلانات بعد كل حركة فيها !!! والسؤال هل هذه مصر بتاريخها وجغرافيتها وعبقرية مكانها ؟؟؟ لا أظن و لا أعتقد أن يقبل ذلك، ولكن يثار هنا سؤال أهم وهو ماذا نحن فاعلون وهل اصبح الوضع بعيدا عن التصحيح ؟ وهل سنذعن للهوان والذلة !!! سيدعو دعاة الأمر الواقع وسياسة فن الممكن إلي قبول الهزيمة و الإذعان للمشروع الصهيوني والتواجد تحت الجناح الأمريكي كجمهوريات الموز ... ولكني أزعم أن هذا و إن حدث فلن يبقي فالشعب المصري آت .. ومصر التي بعزتها يعز العرب وبهوانها يتراجعون لن تخذل تاريخها و أمتها .. ولم يكن الشابي الشاعر التونسي العبقري يهذي عندما قال اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ..و في الضمير العربي أنه كلما تزايدت الظلمة سوادا فإن بزوغ نور الشمس أكيد..هيا ايها المصريون الشرفاء صيحوا معي..وا مصراه ..و هيا أيها المواطن العربي الشريف العزيز فجاهر قولا وعملا بعدم قبول الذل و الانبطاح ..ولا تظتني أسبح في الخيال أو أقارع الوهام إذا قلت انا لمنتصرون.