تمخضت القمة العربية الأخيرة فى الدوحة فولدت الفأر المعتاد نفسه على الجبهة الفلسطينية، وقررت إرسال وفد إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبمهمة وحيدة هى التوسل وتسول دعم الكبار لإعادة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبدت المفارقة ظاهرة بين قرار القمة إياها تسليح المعارضة السورية المشتبكة فى حرب أهلية مع نظام الطاغية بشار الأسد، بينما لم تذكر القرارات شيئا عن وجود مقاومة فلسطينية من أصله، فما بالك بالحديث الممنوع عن التسليح(!). وهكذا تحولت القضية الفلسطينية عند الحكام العرب إلى قضية «لت وعجن»، وتكرار الاكليشيهات ذاتها عن القدس والدولة الفلسطينية، ودون أى انجاز يذكر سوى اقتراح إنشاء صندوق لإنقاذ القدس بقيمة مليار دولار، وقيل إن ربع المبلغ جرى توفيره، والله أعلم بسيرة هذه الأموال، وكيفية إنفاقها، ناهيك عن إمكانية توفيرها من الأصل، خاصة أن القمم العربية المتتابعة اتخذت قرارات سابقة بتوفير مليارات الدولارات سواء لدعم صمود القدس، أو حتى لدعم خزانة الدولة الفلسطينية الافتراضية القائمة، ولم ينفذ من هذه القرارات سوى النذر اليسير، وهو ما تشكو منه سلطة رام الله دائما، ولا تمانع إسرائيل بالطبع فى أن يدفع الحكام العرب مالا لإخوتهم الفلسطينيين، وبشرط ألا يهدد أحد احتلالها المتصل للأراضى الفلسطينية، ولا حربها المتصلة لتهويد القدس والضفة الغربية، وابتلاع الأرض قطعة قطعة، وبدعم أمريكى وصل إلى ذروته مع زيارة الرئيس أوباما الأخيرة إلى إسرائيل، ولا مانع بعدها وقبلها من ترك الفرصة واسعة لثرثرات القمة العربية، أو إرسالها وفوداً لتسول المفاوضات، وكسب المزيد من الوقت لإنقاذ خطط إسرائيل على الأرض، وإطلاق يدها فى تعقب واعتقال كوادر المقاومة الفلسطينية، وإضافة مئات جديدة إلى آلاف الأسرى الفلسطينيين فى سجونها، وبهدف تعقيد الوضع الفلسطينى، ومنع بروز أى ميل لاستعادة سيرة المقاومة المسلحة فى الضفة الغربيةوالقدس بالذات، وإدامة احتلالها منخفض التكاليف، والتى تتكفل موازنات الدول العربية بدفع نفقاته وفواتيره، بينما تتمتع إسرائيل بسلاسة احتلالها، وتوسيع مستوطناتها، والتظاهر برغبة كاذبة فى سلام لا يأتى، وفى استئناف مفاوضات إهدار الوقت. والحكام العرب ليسوا من الغافلين عما يجرى، وهم يدركون ما يفعلونه جيدا، ويعرفون أن طريقتهم تتكامل مع ما ترغبه إسرائيل بالضبط، ويتحركون تحت سقف المشيئة الأمريكية، وهنا يكمن بيت الداء، فما بين أمريكا وإسرائيل حالة اندماج استراتيجى، وما بين أمريكا والحكام العرب حالة تبعية استراتيجية، وقد تغير عدد من الحكام العرب فى السنتين الأخيرتين، وبسبب ثورات خلعت حكام التبعية المخلصة لأمريكا، وحل محلهم حكام يقال إنهم منتخبون، لكن الحكام الجدد ظلوا كالمخلوعين فى حال التبعية لأمريكا، وبدت القصة موصولة مع الأزمة المحتدمة الراهنة فى مسار الثورات العربية المعاصرة، فواشنطن سعت بكل قوة إلى احتواء أثر هذه الثورات، وحصرها فى تفاعلات ومخاضات عنيفة داخل دول الثورات العربية، ودون أن تمتد آثارها إلى تفكيك حالة التبعية، أو إلى إنجاز استقلال وطنى حقيقى، وهو ما يفسر التماثل المرئى بين الحكام الديكتاتوريين المخلوعين والحكام (الديمقراطيين) الجدد، وبالذات فى اختيارات السياسة والاقتصاد الجوهرية، وعلى الأخص فى البقاء ضمن بيت الطاعة الأمريكى، والخروج من أى التزامات تفرضها الطبيعة الحقيقية للصراع العربى الإسرائيلى، والذى جرى تضييق دائرته إلى مجرد صراع فلسطينى إسرائيلى، ثم خفض سقفه بالابتعاد عن سيرة المقاومة المسلحة، وحصر القصة كلها فى ثرثرات لا تنتهى عن مفاوضات لا تأتى، وإن أتت فهى تستمر سنوات وعقود، ثم لا تفضى إلى شىء غير تكريس الأمر الواقع بقوة الاحتلال، وعلى نحو ما جرى لمفاوضات تقررت فى اتفاق أوسلو قبل عشرين سنة، والتى قيل إنها ستنتهى عام 1998 بإقامة دولة فلسطينية محررة فى القدسوغزة والضفة الغربية، وعلى 22% فقط من أرض فلسطين المغتصبة، لكن الأعوام والعقود مرت، ودون تقدم إلا إلى الاستيطان والتهويد الكامل الجارى للقدس وأغلب الضفة الغربية (!). وقد يقال لك إن القمة العربية الأخيرة فى الدوحة صنعت شيئا حسنا للفلسطينيين، صحيح أنها دارت فى متاهة طلب المفاوضات العبثية نفسها بالنسبة للقضية الفلسطينية، لكنها رغبت فى تحسين حال الفلسطينيين، وقررت عقد قمة مصغرة لدفع خطوات المصالحة بين حماس وعباس، وقد قيل قبل شهور إن المصالحة تمت، وقيل قبلها بسنوات إن اتفاقا نهائيا جرى التوصل إليه، ثم لم يتحقق شىء يذكر، اللهم إلا نوعا من التهدئة بين سلطتين فلسطينيتين افتراضيتين فى غزةورام الله، وما من جديد جوهرى يحمل على الاعتقاد بإمكانية إنجاز مصالحة حقيقية، ثم هب جدلا أن هذه المصالحة المرغوبة تحققت، وشهدنا عودة إلى سلطة فلسطينية افتراضية واحدة، فهل يعنى ذلك شيئا بالنسبة للقضية الفلسطينية الأصلية؟، وهى قضية احتلال استيطانى للأرض، ثم قضية مقاومة وتحرير وطنى لفلسطين السليبة، لا يجيبك أحد، ولن يفعل، والسبب معروف، وهو أن قضية التحرير بالمقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية ليست مطروحة، وهى خارج اهتمام الوسطاء العرب المحكومين بسقف الرغبات الأمريكية، والهادفة بوضوح إلى تزييف معنى القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية احتلال وتحرير إلى قضية معاناة ومعونات، لا تستلزم سوى فتح دفاتر الشيكات الخليجية، وكتابة الشيكات باسم سلطة مصالحة فلسطينية افتراضية واحدة، وإجراء مقايضة عبثية تنتهى إلى تصفية القضية الفلسطينية، وطمس مشروع المقاومة، والبقاء ضمن خانة مساومة مريحة جدا لإسرائيل، تسمح لها باحتكار السلاح وحرية التصرف بالأرض، فيما يبقى العرب على حال (النعاج) التى اعترف بها رئيس وزراء ووزير خارجية قطر لاعب الدور الرئيسى فى القمم العربية البائسة. وبالجملة، ثمة عطف كاذب على فلسطين والفلسطينيين فى القمة العربية الأخيرة، وثمة تكامل مرئى بين قرارات القمة ورغبات إسرائيل، وثمة سقف أمريكى تحتمى به إسرائيل، ويلتزم الحكام العرب بمقتضياته وأوامره، حتى لو كان الثمن هو بيع فلسطين فى سوق مفاوضات النخاسة نشر بتاريخ 1/4/2013 العدد 642