سقطت الخلافة العثمانية سنة 1924،فأسدل الستار بذلك على دولة الخلافة الإسلامية الضاربة بجذورها في أعماق السنين، و بالرغم من مترتبات سقوط خلافة العثمانيين الدرامية في تحول حاضرتها(تركيا) إلى دولة علمانية وتقاسم الإستعمار للتركة (تركة رجل أوروبا المريض) إلا أن فكرة إحياء الخلافة لم تسقط حتى صارت إلى اليوم دعوة منشودة ينادي بها المفكرون و ذوي الرأي من المتحسرين على ذهاب دولة الإسلام،كما أضحت الفكرة –إحياء الخلافة - حلماً يداعب خيال البسطاء ويمنيهم بعهود بعيدة طالما هوت إليه أفئدتهم الخاوية. وقد يلوح لنا تساؤل عن مبعث تكرار مثل هذه الدعوات لاسيما في الفترة الأخيرة ،والسبب سببان أولهما الربيع العربي ونجاح الثورات الشعبية في إسقاط نظم إستبدادية وتطلعها للأفضل ،وثاني السببين حالة النوستالجيا Nostalgia التي تعرف أحياناً على أنها حنيناً لعودة الماضي دافعه التأثر الشديد بالعصور الماضية أو الرغبة في الهرب من واقع تعيس إلى ماض مجيد ! ومن ثم فقد لاقت هذه الدعاوي قبولاً عند أناس يطربون لملاحم الإسلام في عصوره الزاهية أو عند أناس يتوقون لعهد من العدل والأمن حتى لًيسير فيه الراكب "لايخشى غير الله والذئب على غنمه" . والداعون لإحياء الخلافة إنما يروجون للوجه المشرق "الراشد" للخلافة ،ونسوا أو تناسوا أن للخلافة وجوهاً وعصوراً أخرى ساد فيها الحكم المستبد بغير شرعية أو بشرعية واهية أساسها وراثة الملك والهيمنة باسم الدين،مع أن الإسلام عارض فكرة الحاكم الفرد المتسلط ،وأكد على مفهوم الشورى و ضرورة إتفاق (إصطفاف )الجماعة (الشعب) ورضاه عن الحاكم مع وجوب المعرفة المتبادلة لحقوق وواجبات كل منهما(الدستور).كما ضرب القرآن أكبرالأمثلة للحاكم المطلق (فرعون) فبين عاقبته و ذم قومه لطاعتهم إياه وسكوتهم على إستخفافه بهم "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين"(الزخرف-54). أما المبهورون بهذه الدعوات فهم بسطاء يعيشون في كل مكان تسود فيه الظلمة،ويسطو عليه الجهل ولالوم عليهم إذ أن السلطة وضتعهم على هامش الحياة تماماً،وحرمتهم أبسط الحقوق في حياة كريمة ،أو هم شباب ورجال جرفهم الحماس الديني الزائد لدرجة جعلتهم في إنتظار دائم لظهور "المنقذ" البطل الذي يكمل الرواية وتتم به الغاية،حتى صارت عقولهم نهباً لأصحاب البطولة الزائفة و"الأسود" الخشبية !! ويبدو أن فكرة إحياء الخلافة قد غمرت رجالاً بسحر اللقب المقدس "الخليفة-أمير المؤمنين " ،فسعى بعضهم لتبني الفكرة في سبيل تحقيق أطماع سياسية أساسها فرض السيطرة وجمع السلطة الدينية إلى الدنيوية،كان منهم مثلاً الملك فؤاد الذي بذل مساع مضنية في ذلك حتى أنه أقام مؤتمراً عالمياً في منتصف العشرينات أسماه "المؤتمر الإسلامي العام للخلافة" واستجلب له حشداً من العلماء والفقهاء ليبايعوه وريثاً لعرش الخلافة بعد سقوط بني عثمان،وكاد يتم له الأمر لولا أن برز الشيخ علي عبد الرازق بكتابه الفريد "الإسلام وأصول الحكم " انتقد فيه التكريس للحكم المطلق باسم الخلافة ،بإعتبارها "مصطلح تاريخي وراثي وليست شرطاً شرعياً أو أصلاً من أصول الدين"،فكان الكتاب سهماً نافذاً في صدر ملك ألعوبة نسي كيف وضعه الإنجليز على عرش مصر ، وصورت له أوهامه أنه الأحق "بإرث" الخلافة ! ثم كان أن انتقم الملك من الشيخ فحاكمه "الملأ" من فقهاء السلطة وأخرجوه من" زمرة العلماء". ثم عاود الحلم فاروق ابن فؤاد فسعى- أول عهده بالملك- لعقد "بيعة" دينية لنفسه سانده فيها الإعلام حتى لقبه "بالفاروق" تشبهاً بعمر رضي الله عنه وأيده مشايخ السلطة وبعض القوى السياسية كان أبرزها جماعة الأخوان المسلمين التي كانت تشق طريقها للحكم ولم تجد خيراً منه مجسداً لطموحاتها. إلا أنه سرعان ماتبخر الحلم مرة أخرى على يد النحاس باشا رئيس الوزراء بإعتباره صاحب الشرعية الدستورية في دولة برلمانية الأمة فيها هي مصدر السلطات. وبعد سقوط العهد الملكي ومع تغيرنظام الدولة والتنكيل بالتيارات الدينية في عهد عبد الناصر إختفت دعاوى إحياء الخلافة وإن ظهرت على إستحياء من خلال بعض الكتابات ثم عادت (الدعاوى) بعودة التيارات الدينية في ظل "لعبة التوازنات" التي أجراها السادات على الساحة السياسية ،غير أنها ترددت مرة أخرى بقوة منذ ثورة يناير وبالذات في الآونة الأخيرة مع صعود تيار الإسلام السياسي ممثلاً في جماعة الإخوان المسلمين ،وبدا من تصريحات قاداتها التلويح غير مرة بقضية الخلافة بما في ذلك من تلاعب بأحلام البسطاء،وإلهاب لحماس الشباب ونسى أولئك أنما إصلاح الفرد في المجتمع هو السبيل الوحيد لنهضة الدولة وليست بالبيعة لإنسان – أي إنسان – ليكون ظل الإله على الأرض