هو الشيخ " المؤسسة" ..لأنه إمام مسجد كبير بوسط البلد.. وفقيهه وما جاوره من زوايا.. ثم إنه مقرئ و منشد عذب الصوت ..يثير صوته في نفسك شجوناً إذا حضرت له " مأتماً" أو طرباً إذا كنت مدعواً " لعقيقة" أو مناسبة دينية يصدح هو فيها.. وهو فوق كل ألقابه له " راق" للمرضى والممسوسين و أحياناً حانوتي يقف على أحدى بوابات عالم البرزخ.. و الكمشيشي ..على ذلك.. رجل جاوز الأربعين بقليل.. ريفي منوفي النشأة ..ويرى دائماً أن منوفيته تغلب على ريفيته..ومع ذلك فلايكاد يعرف أن أحدهم من المنوفية حتى يتمثل في لحن.. - ثعبان على الحيط ولا منوفي في البيت ! ثم يقهقه متراجعاً برأسه حتى تنزلق عمامته أو تكاد.. وربما رد عليه أحدهم : - ألست منوفياً يا مولانا؟ - بلى ، ولكن ..منا الصالحون ومنا القاسطون .. كنا طرائق قدِداً !! وقد تجد مكتب الشيخ الصغير بالمسجد يعج بالسائلين و طالبي الفتوى بعد كل صلاة ثم يقتصر من بعد العشاء على أصفياء الشيخ أو جلساءه حتى ينتصف الليل ..وهناك على ضوء مصباح " سهاري" تجد القوم غرقى حول الشيخ في بحر من طرب ..إذ ينشدهم الشيخ حيناً ويتجاذب معهم قطوفاً في الأدب والحكمة وما يُسمر فيه أحياناً.. ونادراً ما ينجو جلساء الشيخ من القفشات " الكمشيشية" وهي مقالب لاذعة يصيب بها شيخنا ليسري عنهم .. يوماً قابل جلساءه بوجه متجهم عبوس فلما سُئل عن ذلك أجاب .. - أخبروني "أحبابنا" في أمن الدولة أن في إجتماعنا كل ليلة مخالفة لقانون الطوارئ .. ومن ثم فقد قرروا إيفاد مخبرين للتحري عنكم أو القبض عليكم إذا لزم الأمر - وماذا فعلت يامولانا؟ - حاولت إيضاح الموقف لكن لافائدة وسوف يُجرى توبيخي في الأوقاف وربما أوقفوني عن العمل!! - وهل علمت متى يجيء هؤلاء؟ - بلى.. وهم في الطريق إلى هنا .. قالها فهب القوم كلهم مرة واحدة فاصطدم بعضهم ببعض والشيخ قائماً بينهم يقول ملحناً : - تعيشوا وتاخدوا غيرها !! والمفارقات بين شيخنا وبين مساعده خادم المسجد " سالم" كثيرة متعددة ..ربما لأنهما " بلديات" وربما لأنهما يختلفان على تقسيم " النفحات" بينهما.. والنفحات - والتعبير للشيخ- هي مايجود به رواد المسجد على المسجد ..من مأكل وكساء ..لوجه الله أو نظير السماح لبعضهم برفع الأذان واكتساب ثوابه ! من هذه المفارقات ما وقع في شهر رمضان وعرفه الناس "بحادثة الكنافة" عندما أهدى أحد المصلين للشيخ صينية من الكنافة وشيئاً من القطائف وقدم جلساء الشيخ يسلمون عليه قبل التراويح فسألوه كعادتهم عن الهدية والهادي ..وجاوبهم كعادته متهللاً - هو رزق ساقه الله إلينا .. يصيب برحمته من يشاء.. وذهب الشيخ يؤم الناس في صلاتهم بينما تسلل لصٌ جائع إلى غرفة الإمامة فأصاب من الكنافة ما أصاب وترك القطائف على حالها.. و صُعق الشيخ وهو يرفع عن الصينية غطائها ثم خرج يمسك بخناق سالم و هو يصرخ على مسمع ممن بقى من المصلين : - عملتها يا شره يا ابن الشره ..أكلت الكنافة كلها يا لص يا .... - كنت واقفاً على " الجزامة" ولم أتحرك .. بل أكلها عفريت من الجن لأنك نويت إخفائها عني.. أحسن!! وهرع المصلون يفصلون بينهما وراحوا يجذبون الشيخ من قفطانه قائلين : - أكيد مش هو يا شيخنا.. وهو يصيح في حدة : - مفيش غيره ممكن يعملها و الدليل قطائفي التي لم يقربها.. ومعروف للشيخ أن سالما لا يأكل القطائف .. لم يكن للشيخ أراءاً معلنة في السياسة ولكنه دائماً كان من أنصار الحياة في ظل الحائط .. فلم تكن خطبة الجمعة التي يلقيها سوى درساً في مكارم الأخلاق أو عبراً من السيرة ..غير أن أحداث الثورة المتسارعة جعلته يشعر بواجبه تجاه " جمهوره" من رواد المسجد.. وقف على المنبر يوم جمعة الغضب فقال : - عودوا لدياركم .. فالخروج على ولي الأمر حرام.. فانبرى له إثر ذلك نفر من الشباب بالصياح معترضين ، لكنه واصل خطبته غير آبه ممادفع بعضهم للقيام إليه وإنزاله عنوة من فوق المنبر ،وبصعوبة أفلح رواد المسجد في تخليصه من أيديهم ..ولولاهم لفتكوا به .. وفي الجمعة التي تلت جمعة الغضب قررالكمشيشي أن يثأر لكرامته و إرتأى لنفسه مقارعة معارضيه (معارضي النظام) حجة بحجة ، فوقف على المنبر يكرر فتاوى الأئمة في الخروج على الجماعة وشق عصا الطاعة ،لم يمهله القوم فحملوه حملاً وأقاموا أحدهم مكانه خطيباً وإماماً في الصلاة !،ولم يتدخل رواد المسجد بل إنصرف أكثرهم من المسجد من مظنة بطلان صلاتهم وهو ماحز في نفس الرجل فطلب إلى الأوقاف نقله إلى مسجد آخر ،واعتكف في بيته حتى يصله الرد..ولم يصل .فيما كان النظام يلفظ آخر الأنفاس.. وسقط النظام.. فتوارى شيخنا عن الأنظار حيناً ، ثم ظهر في مسقط رأسه مدافعاً عن تطبيق الشريعة قبيل إنتخابات برلمان الثورة .. على رأس قائمة مرشحي أحد الأحزاب الإسلامية .. ولم يصدق جلساء الشيخ القدامى أعينهم ..لما رأوا على الشاشات وجه الكمشيشي باسماً تحت القبة..قبة البرلمان..