لا نريد أن نتخلص من حكم الإخوان ليحكم الجيش، ثم إن الجيش نفسه لا يريد حكم البلد، وإن كان الجيش لن يسمح بانهيار مصر النهائى على يد الإخوان. والجيش المصرى ليس كأى جيش آخر كبير فى المنطقة، فلا هو الجيش الإيرانى وحرسه الثورى بعقائديته الشيعية المفرطة، ولا هو الجيش التركى المرتبط تاريخيا بعلمانية أتاتورك، ولا هو جيش كيان الاغتصاب الإسرائيلى طبعا، فالجيش المصرى محترف، ويمتاز بتقاليد الانضباط الصارم، وبتقاليده الوطنية الأصيلة، وقد ولد الجيش مع نشأة الدولة المصرية الوطنية، وكان بمثابة عمودها الفقرى، فقد نشأت حركة التصنيع الأولى أيام محمد على من حول الجيش، وكان تحطيم الجيش سبيلاً لكسر نهضة محمد على بتوقيع «اتفاق لندن» الاستعمارى، وبعد أن تحالفت جيوش أوروبا مع الدولة العثمانية المريضة، وأوقفت حملات إبراهيم باشا ابن محمد على على أبواب الآستانة، بعدها كان التحكم الأجنبى يشق طريقه إلى جميع مجالات الحياة فى مصر، ووصل الغزو الأجنبى إلى الاحتلال الكامل مع تحطيم جيش أحمد عرابى، وإلحاق مصر بالإمبراطورية البريطانية التى كانت لا تغيب عنها الشمس، وعبر ما يزيد على سبعين سنة انتهت بجلاء الاحتلال البريطانى، كانت الحركة الوطنية ممتدة بنشاطها إلى داخل الجيش، وتكونت مئات الخلايا الوطنية فى الجيش، وعندما انتهت سيرة حزب الوفد إلى ضعف وإفلاس، كان تنظيم الضباط الأحرار عنوانا على أعظم مراحل النهوض فى تاريخ مصر وأمتها العربية، وكانت عملية إعادة بناء الجيش بعد هزيمة 1967 ختاما لعصر من الملاحم، كانت مصر العفية فى أعلى ذراها التاريخية، حررت المنطقة كلها من الاستعمارين البريطانى والفرنسى فى عشر سنوات تلت قيام ثورة 1952، وفى عشر سنوات لاحقة، حققت أعلى معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى فى العالم الثالث وقتها، وبنت السد العالى فى دراما العشريتين، وأقامت العصر الذهبى للعدالة الاجتماعية، ومسحت عار الهزيمة بالعبور إلى النصر فى حرب 1973، ثم كان ما تعرف، جرى الانقلاب على النهضة كلها، وبدأ تحطيم التصنيع والجيش مع عقد معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتى تشبه فى مغزاها التاريخى أثر «اتفاقية لندن» التى حطمت نهضة محمد على، وهكذا جرى تحطيم ركائز الدولة المصرية الحديثة، وبيد الاستعمار الأمريكى الزاحف هذه المرة، وجرى فرض القيود على حركة الجيش فى سيناء، وتقليص الصناعات العسكرية، وإضعاف الجيش، والتحكم فى تسليحه، وفرض الوصاية بخبراء جهاز المعونة الأمريكية، وضرب محاولة المشير أبوغزالة للخروج عن النص أواخر الثمانينيات من القرن الفائت، وتسييد إغراءات «البيزنس» فى أوساط القيادات العليا، ثم تسييد الركود الطويل فى العهد الأطول للمشير طنطاوى، والذى وجد نفسه أخيراً منقادا لروح الجيش الوطنية الكامنة، ونفذ أمر الشعب بخلع مبارك، ولكن دون خلع نظامه، والتركيز على فرصة «الخروج الآمن» مقابل «الدخول الآمن» للإخوان. ولم يكن حكم مجلس طنطاوى وعنان مما يذكر بالخير، فقد بدت ثقافة الجنرالات غاية فى البؤس، ولم يتورعوا عن ارتكاب جرائم دم لا تليق بشرف الجيش المصرى، ثم إنهم تصرفوا كهاربين من شرطة التاريخ، وليس كقادة لجيش مصر العظيم، ثم كانت المقايضة المريبة، والتى ضمنت لطنطاوى وعنان خروجا آمنا، وتنصيب قيادة جديدة للجيش فى لحظة خطر عاصف، وبدت القيادة الجديدة أكثر شبابا وحيوية ووعيا، وإن حاول البعض تشويهها، وبادعاءات من نوع «إخوانية» الفريق أول عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، ولمجرد أنه شخص متدين كعموم المصريين، وقد التقيت الفريق أول السيسى لمرة واحدة زمن حكم المجلس العسكرى، التقيته بدعوة كريمة، كما التقاه غيرى من المثقفين والساسة والإعلاميين الوطنيين، وبدا لى السيسى رجلا ذكيا واعيا ووفيا لأعظم تقاليد الجيش المصرى، فوق نظافة يده وذمته التى لم تشبها شائبة فى زمن الفساد المعمم، واستبشرنا خيراً حين انتقلت القيادة إليه، ليس لأننا نريد حكم الجيش للبلد، بل لأننا نريد للجيش أن يسترد عافيته، وفى ظروف خطر غير مسبوق يعصف بمصر، ففوق المخاطر القديمة، وتحكم الأمريكيين الاستعمارى، ولدت مخاطر جديدة مع حكم الإخوان، والذى تفضله واشنطن، ويبدو مطيعا لها، حتى لو تعلق الأمر بالمزيد من إضعاف الجيش وقصم ظهر مصر، وإخلاء المنطقة من أكبر جيوشها فى مواجهة الجيش الإسرائيلى، وهو ما يفسر تربص الإخوان بالجيش، فهو أى الجيش العقبة الرئيسية المانعة لتحطيم الدولة المصرية بالكامل، فقد نشر مبارك «فيروس الإيدز» بالافساد فى جهاز الدولة المصرية، وسرى «مرض الإيدز» المدمر لمناعة دوائر الرقابة والدوائر الحساسة، وجاء حكم التتار الإخوانى ليواصل السيرة ذاتها، ويعمل بقاعدة مبارك ذاتها، وهى «إحلال الأسوأ» عند مفاتيح التحكم، وبدت نخبة الإخوان أسوأ وأجهل من نخبة مبارك، وكل ما يهمها كما كان يفعل مبارك بالضبط هو شفط السلطة والثروة لصالح الجماعة، ويبدو أن جنون التتار الإخوانى جاوز حدود الخطر، وتخيل أن الدولة المصرية غنيمة لمكتب الإرشاد، ولم يفرق بين «معنى الدولة» و«معنى الحكم»، فمن حق حزب الأغلبية أن يحكم فى النظام الديمقراطى، لكن الحكم شىء والدولة شىء آخر، فقد يشكل حزب الأغلبية الحكومة، لكن دولاب الدولة يظل يعمل وفق قواعده وتقاليده غير الحزبية، فما بالك وحزب الإخوان ليس بأغلبية ولا يحزنون، فقد جرى حل البرلمان بحكم المحكمة الدستورية، ثم إن السيد مرسى لم يعد رئيسا شرعيا بأى معنى، فقد فسخ العقد الضمنى مع ناخبيه، وتحول إلى ديكتاتور صغير منذ لحظة إصداره للإعلان المنكود فى 21 نوفمبر 2012، وإقراره لدستور الأقلية بموافقة عشرين بالمائة فقط من هيئة الناخبين، وتنصيبه لمجلس الشورى غير الشرعى كسلطة تشريع، وعدوانه المتصل على سلطة القضاء بقصد المزيد من إفسادها بالأخونة، ثم جرائمه فى أخونة إدارات الدولة، وإحلال أطفال مكتب الإرشاد فى المناصب الرئيسية، ثم ارتكاب إداراته لجرائم سحل وتعذيب وخطف وقتل المتظاهرين، تم التطلع إلى السيطرة على الجيش نفسه، وتحويله إلى ميليشيا مضافة لميليشيات الإخوان. وما نريده بوضوح أن يسترد الجيش عافيته ودوره الأصلى، وأن يتخلص من عبء المعونة العسكرية الأمريكية، وأن يتوسع فى خطط استعادة الصناعات العسكرية، وفى كسر احتكار السلاح، وفى بسط السيطرة العسكرية كاملة على سيناء حتى الحدود الدولية، وأن يطهر صفوفه من «جماعة البيزنس»، وأن يواصل صموده ضد محاولات الإخوان لإضعافه، وأن يحفظ سلامة البلد المهدد فى أمنه الداخلى، وألا يصطدم بحركة الشعب الثائر، والذى نعول عليه وحده فى التخلص من حكم الإخوان غير الشرعى بالجملة، فالشعب وحده قادر على دحر الطغاة، الشعب الذى خلع مبارك سوف يخلع حكم المرشد، وبالأساليب الديمقراطية السلمية، على خط الشارع، أو على خط صندوق الانتخابات، فقد احتدمت الأزمة الداخلية فى مصر، والثورة المغدورة مازالت تقاوم، وتبتكر خططا مبدعة للتحرك كل يوم، بمزج الغضب الاجتماعى مع الغضب السياسى، وبالتحول المطرد إلى العصيان المدنى السلمى، وليس المطلوب من الجيش أن يزيح مرسى وعصابته، فالشعب وحده يقدر على إنجاز المهمة، ودون أن يصطدم بالجيش الذى هو درع مصر وسيفها، والذى لن يتحول أبداً إلى ميليشيات لحزب أو جماعة أو رئيس غير شرعى نشر بتاريخ25/2/2013 العدد 637