فى واحدة من برقيات «ويكيليكس» الشهيرة، يلتقى الشيخ حمد بن جاسم رجل قطر القوى مع مسئول أمريكى فى الدوحة، ويدور الحديث عن دور مصر زمن المخلوع مبارك فى خدمة السياسة الأمريكية، ويصب بن جاسم جام غضبه وانتقاداته اللاذعة لمبارك، ويحاول إقناع المسئول الأمريكى بعدم جدوى اعتماد واشنطن على مبارك، ويشبه مبارك بالطبيب الذى يترك مريضه مريضاً دونما علاج، وحتى يتاح له الاستمرار فى تلقى المكافأة.. من أمريكا طبعا. البرقية مثال نادر لتأكيد ما هو مؤكد, وهو أن الإدارة القطرية تقدم نفسها للأمريكيين كبديل أكثر كفاءة، فلديها موارد مالية هائلة، ومكنتها زيادة دخول الغاز والبترول من ثروة فلكية، جعلتها الأعلى دخلاً فى دول الخليج بعد السعودية مباشرة، ولا تحتاج والأمر كذلك إلى مكافأة مالية من الأمريكيين، بل هى التى تدفع بسخاء، وتمول نوعا من الاستعمار الأمريكى مدفوع الأجر، وتجنب الإدارة الأمريكية حرج السؤال فى الكونجرس عن مبالغ ومعونات تصرف من الخزينة الفيدرالية، وهكذا تبدو قطر اختيارا مثاليا عند الأمريكيين، ولا تطلب قطر مقابلا لخدمتها سوى ما هو متحقق بالفعل، فعلى أراضى قطر أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى المنطقة، ورضا البيت الأبيض يعنى الحماية المباشرة لأمن وبقاء الإدارة القطرية، مقابل القيام بدور الوسيط النشيط، والذى تبرز معه الدبلوماسية القطرية كأنها صانعة المعجزات والخوارق، تروض حكم البشير فى السودان لمصلحة الأمريكيين، وتفتتح مكتبا لحركة «طالبان» فى الدوحة هو الوحيد من نوعه، ولكى تقيم قناة مفتوحة بين طالبان والأمريكيين، تدير من خلالها مفاوضات التهيئة للخروج العسكرى الأمريكى من أفغانستان، ثم تواصل قطر فى الوقت نفسه علاقاتها السلسة مع الإسرائيليين، فلم يحدث أبدا أن قطعت قطر علاقاتها مع إسرائيل، واكتفت بتجميد المكاتب الدبلوماسية والتجارية دون إلغائها، وحتى تتمكن من إقامة صلات وثيقة على الجانب الآخر، وتعطى بسخاء لحركة «حماس» فى غزة، وحتى تشجعها على الانخراط فى معنى المساومة بدلا من معنى المقاومة، وعلى تكريس معنى مزور للقضية الفلسطينية, يصورها كمشكلة لجماعة بشرية بائسة تستحق العون والغوث، وليس كقضية شعب يسعى لتحرير أراضيه المحتلة، وتفكيك كيان الاغتصاب الإسرائيلى. وخلال حرب غزة الأخيرة , بدا الشيخ حمد بن جاسم صريحا إلى حد الفجاجة، وأملى على زملائه من وزراء الخارجية العرب ما يجب أن يعلموه من وجهة نظره، ووصف العرب والفلسطينيين ضمنا بأنهم جماعة من «النعاج»، وهو يدرك طبعا أنه يصف نفسه قبل أن يصف غيره، وبعيدا عن فجاجة اللفظ والوصف، فقد بدا المعنى المقصود ظاهرا، وهو أن «النعاج» لابد لها أن تحتمى بأحد يحرس ويرعى، وما من حماية ولا ملجأ ولا ملاذ «للنعاج» غير الإدارة الأمريكية، خاصة أن الشيخ حمد بن جاسم يرى فى نفسه نتائج الوصفة التى ينصح بها، فهو يبدو فى اجتماعات الجامعة العربية كالديك المنفوش، ويبدو كأنه أذكى وأقوى وزراء الخارجية العرب، ويبدو السيد نبيل العربى الأمين العام للجامعة العربية إلى جوار حمد، وكأنه المطيع الأمين والخادم المستعد، ليس لأن قطر دولة عظمى، بل لأن ممثلى الدول العربية الكبرى صاروا صغارا إلى جوار الشيخ حمد، فأموال قطر وملياراتها على مدد الشوف، ثم إن الشيخ حمد واصل الذكر إلى البيت الأبيض، ويجرى الاستماع لكلماته فى الاجتماعات العربية كأنها رأى الإدارة الأمريكية بالضبط، ويجرى النظر إلى الشيخ كأنه الوزير الاحتياطى للخارجية الأمريكية (!) . وفى زيارة إلى مصر قبل أسابيع، سخر الشيخ حمد بن جاسم من مخاوف استيلاء قطر على مصر، وكان الرجل محقا فى سخريته، فهو يعرف ما يعرفه المبتدئون فى الحياة والسياسة، وهو أن قطر دولة صغيرة، وعدد سكانها الأصليين والوافدين أقل من عدد سكان حى شبرا فى القاهرة عاصمة مصر، وليس لدى قطر جيوش جرارة، اللهم إلا إذا اعتبر حمد أن جيوش أمريكا هى جيشه الشخصى، وهو ما يفسر تلك العنجهية الزائدة فى كلام سيادته، فلا أحد فى مصر يتخوف من نفوذ قطر فى ذاتها، وناس قطر على أى حال جزء عزيز من شعب الأمة العربية، ولهم كل المحبة والاحترام، لكن الإدارة القطرية تتصرف بفوائض الغاز والبترول لخدمة الأمريكيين والإسرائيليين بالذات، وهنا بيت القصيد، فالإدارة القطرية تعمل كمتعهد حفلات ومسهل خدمات، تدفع ليحصد الأمريكيون، وتدفع ليطمئن الإسرائيليون، ولا بأس فى المقابل من كسب «برستيج» دور عربى لقطر، بل وثورى أحيانا، وإلى حد بدا معه أمير قطر كأنه المتجول الثورى شى جيفارا، أو كأنه عبدالناصر آخر، واسع الثراء هذه المرة، ويعمل بالمفارقة ككفيل لجماعات الإخوان بالذات، ويسعى لضم الإخوان معه إلى كفالة الأمريكيين فى الوقت ذاته، فقد بدت الإدارة الأمريكية حائرة إزاء موجة الثورات العربية المتلاحقة، وفضلت التريث على أمل احتواء هذه الثورات، وتنشيط جسور التواصل مع جماعات الإخوان , واستخدام المال القطرى لترويض جموح الفئة الحاكمة الجديدة، ثم إجراء اختبارات جس نبض للفئة الإخوانية الحاكمة فى مصر بالذات، وبعد الاطمئنان المبدئى، راحت الإدارة الأمريكية تدير شبكة معقدة من الضغوط، وتشجع القطريين على دور مفيد فى عملية الاحتواء، وهو ما يفسر الدور الموكل إلى قطر فى مصر، خاصة مع ضعف الاستعداد السعودى لتوثيق الصلة مع الإخوان، وتمسك «الإمارات» بصلاتها الوثيقة مع جماعة مبارك المخلوعة، وهو ما يزيد من فرص الدور القطرى ككفيل مالى حصرى للإخوان، وقد سبق لقطر أن قامت بالدور نفسه فى ليبيا، وقامت بدور الكفيل المالى لحملة «الناتو» العسكرية التى خلعت وأعدمت الديكتاتور القذافى، لكن تعقيدات الساحة الليبية الثرية بتروليا حرمت قطر من اتصال الدور بالكفاءة الأولى، وفضلت قطر التركيز على كسب دور معترف به أمريكيا فى سوريا، وحيث تحولت الثورة إلى حرب أهلية طاحنة لا تبقى ولا تذر، فعلها نظام الديكتاتور بشار ليطيل عمر سلطته، وتجاوبت «الفئة الإخوانية» مع قصد بشار الطائفى نفسه، وهو ما يفسر اتجاه الدعم القطرى إلى «جماعة الإخوان» فى سوريا، وهى الجماعة المؤهلة لتقديم ضمانات للأمريكيين ووعود أمان للإسرائيليين، بينما تبدو جماعات أخرى مقاتلة كجبهة النصرة خارج التحكم، وقد تشكل خطراً عسكرياً مباشراً على الإسرائيليين عبر خط الجولان فى حال رحيل بشار . نشر بتاريخ 28/1/2013 العدد 633