كعادتنا التى درجنا عليها فى ليالى رمضان، أمضينا ليلته الاخيرة سهارى حتى الموعد الذى عهدنا فيه إيقاظ الاولاد والبنات من أجل السحور.. كان الاختلاف هذه الليلة هو أن كل أفراد الاسرة، صغارها وكبارها، قد سهروا معنا حتى ذلك الموعد.. فأقرانهم من أبناء وبنات صديقى العزيز كانوا بصحبة والديهم فى ضيافتنا، بعد انقطاع طال منذ ما قبل حلول شهر رمضان. فجأة، تنبهنا لاصوات المآذن تأتينا من كل حدث وصوب.. الله أكبر.. الله أكبر.. إنها الدعوة لصلاة العيد.. نعم، لقد جاءت لحظة الحقيقة، وها نحن وجها لوجه أمام عيد الفطر المبارك.. شعرنا أنه ها جأنا هذا العام، اماما منا اعتاد أن يفاجئ كل محطات الاذاعة والتليفزيون العربية، عندما يباغتها كل عام، قبل أن تكون قد أكملت اعداد ما يناسبه ويليق به، من برامج.. رغم أن موعد عيد الفطر لا يمكن تأجيله.. ولا يصح ادعاء أحد بأنه قد بوغت بحلوله.. فموعده ثابت، ثبات شهر رمضان بين شهور السنة الهجرية.. كم هو غريب حقا هذا الاحساس بالمفاجأة ولعله الارتباك الذى أصابنا لحلول العيد القادم نهاية شهر صمنا أيامه تباعا! تبادلنا النظرات.. صغارنا وكبارنا.. صحيح أن طبيعة نظرات الصغار واتجاهاتها كانت تختلف عن نظرات أولياء الامور.. إلا أن الخيط، الواصل بينها جميعا يطرز فى الوعى إيحاء راسخا بأن الجميع كانوا يدركون حتمية الارتباك فى هذه اللحظة.. لكنهم ظلوا، كل الوقت يقنعون انفسهم بممارسة أسلوب التعامى أو عدم التفكير فى الامر.. هذا وحده ما يفسر عدم جرأة أى منا على أن يطرح، بشكل علنى، تساؤلا حول الاسلوب المناسب للتعامل مع العيد، الذى نقف جميعنا امامه، كأنما هبطت تباشيره علينا فجأة، أو كأننا لم نسمع بالامس تأكيده فى نشرة أخبار على شاشة تليفزيون رسمى أو خاص!! باعتبارى واحدا من الكبار، استطيع أن أجزم أننا كنا نخشى من طرح تساؤل حول الاسلوب الذى سنتعامل به مع هذا العيد، حرصا على مشاعر ورغبات الصغار، التى توحدها الاعياد فى نمط سلوكى، لا يسلبه التكرار بهجة الاكتشاف الطفولى.. اما الصغار فلا اعترف فقط بجهلى دوافع سكوتهم «الذى لم يبد بدوره، خاليا من الريب!».. وانما اقر ايضا بأن ما نضحت به عيونهم الصغيرة المتقدة من ادراك، وتكتم متردد، قد مثل بالنسبة لى مفاجأة لا تخلو من احراج. كانت صلاة عيد الفطر بالنسبة لى وصديقى طقس دينى واجب.. لكن لقاءنا فى المسجد مع ثلاثة من جيراننا الذين فقدوا ابناءهم شهداء فى الأيام الاولى للثورة وضعنا فى مواجهة مباشرة مع سر ارتباكنا وأولادنا امام هذا العيد.. الشبان الشهداء كانوا من خيرة شبات الحى.. الكل يشهد لهم بالرجولة والشهامة وحسن التعامل مع الصغير والكبير.. كررنا العزاء للاباء الثلاثة مؤكدين لهم أننا نشعر بفقد ابنائهم تماما كما يشعرون.. وتأكيدا على صدق ما نقول، أصررنا على التوجه رفقتهم من المسجد مباشرة الى أضرحة الشهداء الثلاثة كى نزورها معا، فهم الاكرم والاولى بالتحية فى يوم مبارك كهذا. كانت لحظات وقوفنا أمام أضرحة الشهداء جياشة، تختلط فيها مشاعر الحزن والفخر وتمتزج فيها أفكار شتى زكريات حول من استشهدوا ممن نعرف فى معارك الوطن.. كانت لحظة نادرة يصحو الوجدان لتتجسد فيه الشهادة، لا باعتبارها عنصر فقد دون وداع، بل كحالة خصوصية للموت تشكل هارمونولوجيا علم، يختصر الطموح الوطنى برمزيته.. ما بين تضحية الفرد فى اطار وحدة وطنية سقفها مصير الوطن، وبين خصوصية الشبان، باعتبارهم رمز العطاء الوطنى غير المشروط.. لعل هذا المعنى ان استقر فى الوعى والوجدان يخلف فى هذا العيد من غصات تعتصر حلوق المئات من آباء وأمهات شهداء الثورة من مختلف قطاعات الشعب وفئاته، مرتضين بكل الفخر نصيبهم المعلوم من ضريبة الجهاد من أجل خلاص بلادهم ورفعة شأنها. لكنى فى طريق العودة لم استطع منع الهواجس والتساؤلات من مداهمتى.. هل تحقق ما بذل هؤلاء الشهداء وأمثالهم دمهم من أجله؟!! هل من تقدير حقيقى بغير الكلمات والشعارات لحجم العطاء السخى الذى قدموه دون تردد من أجلنا جميعا؟!! ان كانت الاجابة نعم فما هى الدلائل على وجود هذا التقدير فى كل من العقل الجمهى وعلى المستوى الرسمى؟!! جارنا والد الشهيد صديق ولدى وزميله فى الدراسة تبدو علامات العسر المادى فى مظهره!!.. هذه الملاحظات والافكار أفاقت فى واجهة وعيى مجددا تلك المواجهة الحادة بين كل ما ترسب فى وجدانى عبر السنين من معانى للعيد وردية مشرقة وبين ما أثمرت تلك الملاحظات من ميل لاكتئاب عززه التفكير فى ملامح الوضع العام للبلاد منذ انطلاق الثورة حتى يومى هذا.. حيث الترقب الحذر، يعكس ارباكات على كل تفاصيل وجودنا الاجتماعى، والاقتصادى، والتربوى ايضا ناهيك عن النتائج المرتقبة لمخاض تفاعل واقعنا المتحفز بالمتغيرين الاقليمى والدولى من حولنا.. اللذين يشكلان تاج تزاوج كل منهما مع وعى وارادة قيادتنا السياسية الوليدة! هذا كله جعلنى ابتهل الى الله داعيا من كل قلبى الا تحيد الثورة عن تحقيق ما بذل شهداؤها الشبان دماءهم من أجله والا تكون هواجسى الا من وحى ما خفته التجارب فينا من زعزعة اليقين وجعلنا ميالين للتشكك الدائم! كنت أحاول جاهدا طرد هذه الافكار من رأسى، وأنا أقترب مع صاحبي، من البيت.. رغم أنى توقعت سؤاله، الذى جاء متأخرا حول موقفى الذى سيكون اليوم من الطقوس المعهودة للعيد،الا أنى شعرت عندما ألقاه على بأنه يفاجئنى به!.. نظرت باتجاهه صامتا فلم يكرر السؤال لفنا صمت جعل لاصوات خطانا فى مسامعنا ضجيجا لم نألفه من قبل، تذكرت، على وقع الحكى، لحظة التقاء نظراتى بعيون أطفالى، التى نطقت بكثير من الغموض المؤثر لحظة اذان العيد.. همهمت بما لا أذكر وما اظن أن صاحبى لم يسمع.. واصلنا طريقنا الى البيت صامتين حتى بلغناه. عجبت كيف تنبه الاطفال لوقع خطانا، فاستيقظوا من نوم لم يكد يداعب ثقله أجفانهم الغضة بعد طول سهر!.. كشفت عفويتهم انهم كانوا فى انتظار عودتنا لمناقشة الامر معنا، بعد أن ناقشوه، فى غيابنا مع امهاتهم.. بدا واضحا تقسيم الادوار فيما بينهم اذ قال واحد من أولادى أولا: من الواضح انك يا أبى ترغب فى أن تقصر هذا العيد على زيارة من نعرف من أسر الشهداء والجرحى ومصابيها. قبل أن أجيب قالت كبرى بنات صديقى: - والجرحى ومن عانوا ظلما من السجن ايضا.. ولكن لا معنى للاهتمام بكبارهم من دون الصغار.. فالأهم من مشاطرة الكبار احزانهم تدعيم يقين الصغار بحتمية استمرار الحياة.. وان الاقبال على كأسها بالامل والارادة هو الكفيل باستبدال ما قد يمر به من مرار العلقم. فى تكامل اداء يوحى بترتيب مسبق، التقطت زوجتى طرف الحديث لتقول بلهجة لا تخلو من الانفعال والحسم فى نفس الآن: - نعم.. لابد من يستوعب الجيل الجديد معنى امتزاج الموت بالحياة وان كل مصاب لابد أن يكون باعثا على اصرار لبعث الحياة من الجرح والشهادة والامل من الالم.. صحيح ان الموت يجلل اشراق اللهو بسواده، ويمزج زهو العيد بغصة.. لكن لايجوز الانكسار.. بل يجد الاطفال وقتا للهو، وقدرة على استقبال الاعياد.. وهذه هى المعانى التى لابد أن نحرص عليها اليوم أيضا. ما إن تبادلت نظرات مرتبكة مع صاحبى حتى قالت زوجته: - نعم.. هذا ما بحثناه مع أطفالنا قبل قليل.. وجدنا فى نهاية الأمر ان قدرتنا على ممارسة طقوس العيد، دليل قوتنا التى تهزم الغصة فينا.. ولست اظنكما تريان غير هذا. التقت نظراتى مع نظرات صاحبى من جديد.. لكنها هذه المرة نظرات تسليم وقبول.. لسان حالها يقول: - حرام ان نفرض على أطفالنا ضريبة وعينا نحن بلحظة لها عليهم وقع ما فيهم هم من براءة! قرأ الجميع الموافقة فى عيوننا.. هلل الاطفال فرحين بالعيد انطلقوا يرددون اغانيه وأناشيده.. الا أنهم صمتوا فجأة.. تلفتنا فاذا بهم يتحركون بحذر صامت باتجاه غرفة أكبر أبنائي.. لحقنا بهم نستطلع الامر.. بدأ مع كل خطوة لنا يتضح نشيج ولدى متصاعدا بتشنج له وقع السياط على نياط القلب.. ما إن بلغنا الغرفة حتى رأيناه.. فإذا هو يحتضن صورة صديقه، الذى استشهد قبل اقل من شهر، وهو يجهش بلوعة، ويقول بأنفاس متقطعة لاهثة: كم افتقدك اليوم يا رفيق العمر.. ما حال أمك الثكلى الآن، ويدها المرتجفة تتحسن برودة المهد الخاوى، الذى اعتادت ايقاظك من دفء نومك فيه صبيحة كل عيد!.. اليوم عيد!.. عيد!!!... عيد سعيد(! نشر بالعدد 620 تاريخ 29/10/2012