لا صوت يعلو فى هذا البلد فوق صوت اللصوص.. والذين هزموا الرئيس بفرض الزند وزيرا للعدل.. وبإجباره على إلغاء ضريبة البورصة من يحكم هذا البلد، ويصنع القرارات، وينتصر للصوص، ويتجبر على أغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى؟. قد تقولون إنها الحكومة، أو أنه المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء، وهذا كلام غير صحيح، ولا يليق عقلا ولا نقلا، وأقرب إلى التزوير فى أوراق رسمية، فرئيس الحكومة فى مصر لا حول له ولا طول، وهو مجرد سكرتير أو مدير مكتب أو "بوسطجى"، وصاحب القرار الحقيقى هو الرئيس عبد الفتاح السيسى، وقد ورطوا الرئيس فى قرارات أخيرة صادمة، تسحب من رصيد إنجازه، ومن معنى الأمل فى رئاسته، وتستنزف شعبيته، وتصور الدولة كفريسة وقعت فى براثن جماعات اللصوص والبيروقراطية الفاسدة وعصابة النظام القديم. فلم يتخيل أحد، حتى فى أسوأ الكوابيس، أن يعينوا المستشار أحمد الزند وزيرا للعدل، وهو شخص "فلولى" بامتياز، ومن جماعة المخلوع مبارك، ولا يخفى عداؤه لثورة 25 يناير 2011، وإن ركب موجة 30 يونيو 2013، وعلى ذات الطريقة الهازئة بثورات الشعب المصرى، والمنتحلة لصفاتها، والراغبة فى العودة إلى خطوط 24 يناير 2011، واستعادة الوضع الفاسد الظالم لما كان عليه، وتزوير صورة السيسى، وجعله فى صورة مبارك الأصغر سنا، والأكثر نشاطا وديناميكية وحيوية، وقد وقع السيسى فى الفخ، وهزم نفسه بنفسه، بتعيين الزند على رأس وزارة العدل، وهى الوزارة المنظور إليها كأنها من جهات السيادة، ولا يعين وزير لها بغير أخذ رأى الرئيس، وربما باختياره الأصلى، فقد ظل منصب وزير العدل خاليا لأيام بعد إقالة أو استقالة الوزير محفوظ صابر، وبعد زلة لسانه التى كشفت الحقيقة فى تعيينات القضاة، وحرمان المتفوقين أبناء العمال والفلاحين، ودهس مبادئ الدستور والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ورفض التمييز، وقد أقالوا محفوظ صابر بسبب كشف الحقيقة، وأرادوا تحسين سمعة النظام باستبعاده، وبدا التصرف مفهوما فى وقته، وأمل الكثيرون أن يراجع الرئيس السيسى أوراقه، وأن يصدر قراره المعلق بتعيين 138 شابا متفوقا مظلوما فى وظائف وكلاء نيابة، وقد صدر قرار عن المجلس الأعلى للقضاء بتعيينهم فى 24 يونيو 2013، ثم لم يصدر قرار رئيس الجمهورية باعتماد التعيينات حتى تاريخه، ولم تجرؤ جهة رسمية على إخبارهم كتابيا بالسبب الذى أفصح عنه محفوظ صابر، فالتحريات الأمنية فى صالح الشباب المتفوق المستحق للوظيفة، لكن أوضاعهم الاجتماعية الطبقية هى السبب الضمنى وراء تلكؤ قرار الرئيس، فالشباب المتفوق من أبناء العمال والفلاحين، ولم يحصل آباء الشباب المظلوم على مؤهلات جامعية، تماما كما لم يحصل أبو الرئيس السيسى نفسه على مؤهل جامعى، ولا أبو وزير العدل السابق محفوظ صابر، وكان الأمل بعد "ضجة صابر"، أن تنتهى معاناة الشباب، خاصة أن الرئيس السيسى لا يكل ولا يمل من الحديث عن أولوية الشباب، ويحرص على التقاط صور تذكارية فى تجمعات شبابية، وتصور الناس أن أقوال الرئيس سوف تتلوها الأفعال، ولو بصورة رمزية فى حل مشكلة ال138 شابا مصدوما، لكن الصدمة كالعادة كانت فى انتظار الطيبين المتفائلين، فلم يصدر القرار الذى كان منتظرا، وصدر القرار غير المنتظر، وغير المتوقع على الإطلاق، ودهس الرئيس أحلام الشباب، وعين العجوز أحمد الزند وزيرا للعدل، وهو الرجل الذى لا يقل طبقية ولا استعلاء ولا عنصرية عن سلفه محفوظ صابر، ولا يكف عن تأكيد دعوته لتوريث وظائف القضاء، وأولوية حق أبناء القضاة فى وراثة وظائف الآباء، وبدعوى نشأتهم فى بيئة قضائية، وحتى لو كانوا من غير المتفوقين علميا وأخلاقيا، ولم يبتكر الزند كسلفه محفوظ شيئا من عنده، فهذا هو الوضع المريض القائم منذ عقود، والذى جعل عائلات بعينها تتكاثر وتتناسل فى وظائف القضاة، وتتعالى طبقيا على غيرها من خلق الله، وكأن مؤسسة القضاء حكر عائلى، وليست مؤسسة عامة بوظائف عامة، يحق للمستحق أن يبلغها، وأن يطور أداءها المتكلس بغلبة نزعة التوريث، فتوريث الوظائف كزواج الأقارب، كلاهما يورث الأمراض والانحرافات، وهو ما تشهد به عشرات الفضائح الموثقة قضائيا لشاغلى الوظائف السامية، وما يشهد به تدنى الكفاءة المهنية لقضاة المحاكم، وبدليل أن محكمة النقض تلغى غالب الأحكام التى تصل إليها، وبما فيها أحكام المستشارين الكبار فى محاكم الجنايات، وبدلا من الاتجاه للإصلاح، فعل الرئيس السيسى العكس بالضبط، وانحاز بقرار تعيين الزند إلى الظلم والشيخوخة وتواضع الكفاءة المهنية، وقد لايكون الزند مدانا بحكم قضائى نهائى بات، لكن الرجل خضع لتحقيقات قضائية أكثر من مرة، فيما نسب إليه من مخالفات أراض واسعة النطاق، وغيروا قاضى التحقيق الذى مال لإدانته، وأتوا بقاضى تحقيق آخر حفظ القصة كلها فى الثلاجة، ولم تزل قضايا أخرى للزند معلقة، ولم يجر فيها أى تحقيق رسمى إلى الآن، وبينها ما نشرناه ونشره غيرنا عن مخالفات موثقة مفزعة فى أراضى نادى قضاة بورسعيد وأراضى 6 أكتوبر، ومنع الزند لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات على أموال نادى القضاة، الذى ترأسه منذ آخر سنوات المخلوع مبارك، برغم أن أموال النادى من الأموال العامة لا الخاصة، وبرغم أن النادى مجرد جمعية أو نقابة مهنية، يتوجب أن تخضع كغيرها من النقابات لرقابة جهاز المحاسبات، وهو ما حال دونه الزند، تماما كما حال آخرون دون التحقيق مع الزند فى بلاغات عديدة قدمت إلى المجلس الأعلى للقضاء، وتتهمه بمخالفة مقتضيات وظيفته القضائية، والحديث الفج فى السياسة، وبدلالة تصريحاته فى عشرات المؤتمرات الصحفية والبرامج التليفزيونية، قبل 30 يونيو وبعده، ولم يحاكم الزند كغيره الذين أحيلوا وعزلوا بذات التهمة، وبدا أن الزند على رأسه ريشة، وهى الريشة التى جعلها السيسى تاجا، بتعيين الزند وزيرا للعدل، وكأن الرئيس لا يعلم، بينما هو يعلم ما نعلمه وأكثر، ولديه تقارير الأجهزة والجهات الرقابية كلها، ولديه كل الحقائق المفزعة، والتى حالت دون تعيين الزند وزيرا للعدل فى حكومتى الرئيس المؤقت عدلى منصور، ثم حالت دون تعيينه فيما مضى من عمر حكومة الرئيس السيسى، وبما شجع على الاعتقاد باستحالة تعيين الزند بالذات فى المنصب الرفيع، لكن قوة ما فى الكواليس أطاحت بالاعتقادات المنطقية كلها، وضغطت لتعيين الزند وزيرا للعدل، وربما لخلعه من مركز قوته ونفوذه التقليدى فى رئاسة نادى القضاة، وحتى لو كان تعيينه وزيرا بمثابة حكم إعدام للعدالة. وعلى طريقة القوة الخفية ذاتها، كان قرار إلغاء ضريبة الأرباح الرأسمالية فى البورصة، وكالعادة، لم يصدر القرار باسم الرئيس السيسى، تماما كما بدا تعيين الزند اقتراحا من المهندس إبراهيم محلب، فقد قيل إن المجموعة الوزارية الاقتصادية اجتمعت، وقررت إلغاء قرار سابق للرئيس نفسه بفرض ضريبة البورصة، وقد كانت مجرد ضريبة رمزية على أرباح المضاربين لا على أموال البورصة، وبما لا يتعدى نسبة العشرة بالمئة من الأرباح بعد اقتطاع الخسائر، وبدا القرار وقتها كما لو كان انحيازا رمزيا من الرئيس السيسى لمبادئ العدالة الاجتماعية، خاصة أنه إجراء روتينى معمول به فى أغلب الدول الرأسمالية، وبنسب تفوق كثيرا ما تقرر فى مصر، فالضريبة على الأرباح فى بورصة كندا مثلا تصل إلى 25%، والضريبة ذاتها مفروضة فى دول كفرنسا وألمانيا ورومانيا وروسيا وتركيا، وبنسبة 15%، لا 10% فقط كما جرى فى مصر، وكلها دول رأسمالية لا اشتراكية، وذات أسواق واسعة ومنتعشة، واقتصاداتها جاذبة لاستثمارات هائلة، ولديها نظم قانونية مستقرة تحمى اقتصاد السوق، لكن الذين يحلبون البقرة فى مصر كان لهم رأى آخر، وصمموا على "لى ذراع" الرئيس، وإجباره على إلغاء ضريبة البورصة، وتحقق لهم ما أرادوه، وقررت الحكومة تأجيل ووقف العمل بقرار ضريبة البورصة لمدة عامين، ورد الضرائب التى جرى تحصيلها للمضاربين، وذهب محلب رئيس الوزراء فى مشهد عبثى إلى مقر البورصة، وافتتح يوم مكاسب للمضاربين، زادت عوائده على العشرين مليار جنيه مصرى، أى أن المضاربين "لهفوا" فى يوم واحد ما تفوق قيمته 2600 مليون دولار، وبعد أن نجحت ضغوطهم على مدى شهرين سبقا فى إذلال الحكومة والنظام، فقد دخلوا المعركة مع الرئيس بعد يوم واحد من نهاية مؤتمر "شرم الشيخ" الاقتصادى، والذى فاقت عروضه الاستثمارية كل التوقعات، وبدا كنجاح مذهل لخطة الرئيس، واختار المضاربون الكبار هذه اللحظة لذبح القطة، وبدأوا موسم انهيارات وتخسير وتركيع البورصة، وإشاعة انطباع بالفشل الاقتصادى، وفى حرب "تكسير عظام" جاوزت مدى الشهرين، أعلنوا فى نهاياتها عن مطلبهم الصريح القاطع، وهو إلغاء قرار الرئيس بفرض ضريبة البورصة الرمزية، وساندتهم مؤسسة "مورجان ستانلى" الأمريكية، وهددت بشطب البورصة المصرية، وإلى أن خضع الرئيس لنصائح مستشاريه من سماسرة الأوراق المالية، وألغى قراره السابق، وكلف حكومة محلب بإعلان الإلغاء، وطلب الصفح من المضاربين، والمخاطرة بإنهاك الاقتصاد المنهك أصلا، ونزح مئات المليارات إلى الخارج، وإكمال حلقة النهب والنزح، بضغوط تجرى لإلغاء ضوابط البنك المركزى الأخيرة فى تحويل الأموال، وجعل الاقتصاد رهينة ضحية لمضاربات ساخنة فى البورصة المصرية، والتى لا تعدو كونها "صالة قمار"، وليست أداة تمويل أساسية كما يزعم المتخرصون، فضرائب أرباح البورصة لا تقيد التمويل، والضريبة الرمزية كانت على الأرباح لا الأموال والأسهم، ولم تكن مصادفة أن وزير الاستثمار لا وزير المالية هو الذى ذهب مع محلب إلى "حفلة البورصة" بعد قرار الإلغاء، فوزير الاستثمار أشرف سالمان كان يعمل فى شركة سمسرة أوراق مالية، وهى إشارة رمزية ذات مغزى لانتصار السماسرة واللصوص، فلا صوت يعلو فى هذا البلد فوق صوت اللصوص، والذين هزموا الرئيس بفرض الزند وزيرا للعدل، وبإجباره على إلغاء ضريبة البورصة.