أيا ما كانت الصورة النهائية للحكومة الجديدة، فهى حكومة حزب الإخوان بامتياز، ولا معنى لثرثرات فارغة من نوع وصفها بحكومة التكنوقراط، فطريقة اختيار الاسماء، وطبيعة المشاورات، ودور مكتب إرشاد الإخوان، وسحنة الوزراء المبشرين، وأولهم رئيس الوزراء د. هشام قنديل، وأولوية اللحية التى يتم إطلاقها كسنة دينية، أو كفرض سياسى للتواؤم مع الهيئة الإخوانية، كل ذلك وغيره يقول شيئا ظاهرا جدا، وهو أن الحكومة الجديدة للإخوان، أو للمؤلفة قلوبهم إخوانيا، وحتى لو كانوا فنيين فى مجالاتهم، وأغلبهم من ذوى الكفاءة المتوسطة أو العادية جدا، وبعضهم لا يوحى بكفاءة من أصله، المهم أن معيار الكفاءة هو رضا حزب الإخوان، ونيل بركة مكتب الإرشاد، وحتى لو ادعى أنه يشكل حكومة تكنوقراط جديدة، فهى - بالدقة- حكومة «التكنوخوان» لو صح التعبير. وقد انتظر الرئيس الإخوانى شهرا حتى يشكل حكومته، أو حتى يشكل له مكتب الإرشاد فريقه الرئاسى وحكومة «التكنوخوان»، وقد يكون مناسبا أن ننتظر أداء الحكومة السنية، وألا نحكم عليها قبل أن تبدأ عملها، وإن كان الجواب ظاهرا من عنوانه، بدا تشكيل الحكومة فرصة لاستوزار الراغبين، وبدت الفرصة كأوكازيون حكومى غير مسبوق، وبدت كحكومة موظفين طامحين للترقية، وخلت من أى لمحة تفرد، فقد سلكوا فى تشكيلها ذات السبل المألوفة المعتادة عبر عقود، وهى البحث عن أهل ثقة من أساتذة الجامعات، أو من موظفى الجهاز الإدارى للدولة، أو من المحظوظين بالعمل عن قرب مع مليارديرات كبار، ومع فارق بسيط، وهو أولوية اللحية التى تضيف معياراً فريدا للكفاءة فى الزمن الحاضر، فرئيس الوزراء الجديد كان وزيرا للرى، ولم يلحظ أحد إبداعا ما للدكتور هشام قنديل، ولا أداء مختلفا لأكثر الوزارات ترهلا وفسادا وعطالة وبطالة، ولم نلحظ دورا للرجل فى ملف حوض النيل، وقد كان من زمن مديرا لمكتب وزير الرى، وفى أسوأ سنوات حكم مبارك المخلوع، والتى تدنت فيها مكانة مصر، وصارت لقمة سائغة لتلاعبات دول منابع النيل، واتفاقاتها التى تحرم مصر من امتيازاتها وحقوقها غير القابلة للتصرف، وبعد أن ترقى قنديل من منصب مدير مكتب الوزير، وأصبح هو الوزير نفسه، لم يلحظ أحد دورا ذا معنى للرجل، بل ربما لم يلحظ أحد وجوده، فلا يروى عنه سوى سيرته الشخصية الطيبة كموظف منتظم فى عمله الروتيني، وكرجل يؤدى الصلوات فى أوقاتها، ويطلق لحيته تأسيا بسنة النبى عليه افضل الصلاة والسلام، وهى صفات تؤهله لدور إمام مسجد، وليس - بالضرورة- كوزير أو رئيس وزراء، وأمثال هؤلاء بالآلاف، وبعشرات الآلاف فى الجهاز الإدارى للدولة، ودون أن يعنى صلاحهم الفردى أو الدينى شيئا للبلد، فقد انحط الأداء الإدارى للدولة أكثر برغم انتظامهم فى اداء الصلوات، وبرغم تسابقهم المثير فى إطلاق اللحى، وعجزهم عن وقف أى فساد أو انحراف، أو الحد من الرشاوى السارية، وتعطيل مصالح الناس، وإهدار المال العام على أجور ومكافآت وترقيات تنابلة السلطان. وقد لا يكون مهما أن يكون رئيس الوزراء إخوانيا أو غير إخواني، أو أنه كان من مريدى أمانة سياسات جمال مبارك، أو لم يكن كذلك، فالثابت أنه كان موضع رضا غامر من رؤسائه زمن سيطرة جمال مبارك، والثابت أن لحيته لم تكن عائقا ولا عنوانا لخطر ما، والثابت أنه لا فرق جوهريا بين أن يكون من جماعة مبارك أو أن يكون من جماعة الإخوان، فقد كان هشام قنديل فى وضع المؤلفة قلوبهم فى الحالين، كان من المؤلفة قلوبهم فى زمن مبارك، وهو من المؤلفة قلوبهم إخوانيا الآن، ربما الفارق أن لحيته اللطيفة تفيد أكثر فى زمن الرئيس مرسى قياسا إلى زمن المخلوع مبارك، فمرسى نفسه لا يميزه عن مبارك سوى لحيته، ولو حلق مرسى لحيته لوجدنا تحتها وجه مبارك، وبنظرة البلادة ذاتها. وغياب الفارق الحقيقي، سواء فى سياسة الرئيس، أو حتى فى طرق تشكيل الحكومات، أو فى الاختيارات الوطنية والاقتصادية والاجتماعية البائسة ذاتها، غياب الفارق هو الذى يخلق حالة المزايدة فى المظاهر، ربما لاصطناع فارق موهوم، فالمتحمسون الإخوانيون لمرسى يحدثونك عن احتذاء رئيسهم لسيرة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو ابتذال عقلى وديني، وتحقير للتاريخ الإسلامى ورموزه الكبرى، فلا شبه ولا شبهة شبه بين مرسى وعمر بن الخطاب، وقد كان الأخير عنوانا ملهما على عبقرية فذة صنعت مجد الدولة الإسلامية فى بواكيرها، وكان عمر بن الخطاب -ولا يزال- هو العنوان المتألق على أولوية العدالة الاجتماعية فى التاريخ الإسلامي، بينما مرسى مجرد موظف منتدب من قبل هيئة تسند الظلم الاجتماعي، مرسى مجرد مندوب للملياردير خيرت الشاطر وجماعته، والشاطر- كما أحمد عز وساويرس والأقران- عناوين لأغنى طبقة فى المنطقة، عناوين لطبقة ثراء مشكوك فى أمره ابتداء وانتهاء، عناوين لثراء بلا معنى انتاجى ولا اجتماعى ولا قانوني، عناوين لطبقة شفط ونهب ثروة وموارد المصريين وعرقهم، عناوين لطبقة صغيرة تستأثر بما يقارب نصف الدخل القومى للبلد، وتترك غالب المصريين للعوز والفقر والبطالة والعنوسة والمرض وإهدار الكرامة الآدمية، فهذه هى مصر على حقيقتها الاجتماعية، منقسمة فى حدة بين أغنى طبقة وأفقر شعب، ولا مجال للتحايل، أو ادعاء الانتساب لمعنى العدالة الاجتماعية، بينما الرئيس مرسى مجرد موظف منتدب يخدم هيئة الظلم الاجتماعى فى المبنى والمعنى، ولاحظ سلوك مرسى خلال شهر على رئاسته، فلا إجراء اجتماعيا واحدا، لا لمصلحة العمال، ولا لمصلحة الفلاحين، ولا لمصلحة الموظفين، بل مجرد تهتهات صغيرة، وتكرار لسلوك مبارك نفسه، وقصة «العلاوة ياريس»، ولا إجراء اجتماعيا واحدا لإعادة مصانع القطاع العام المسروقة، ولا إجراء اجتماعيا واحدا لوقف طغيان الناهبين بدعوى الاستثمار، ولا إجراء اجتماعيا واحدا لمصلحة ملايين العاطلين والمشردين والمفصولين من وظائفهم، لا شىء على الإطلاق، اللهم إلا تكرار الاسطوانات المشروخة ذاتها عن رعاية محدودى الدخل، وإعادة انشاء «ديوان المظالم» تأسيا بالرئيس السادات، والذى كان كمرسى من كارهى عبدالناصر وعصره وعدالته الاجتماعية، وراغبا فى ابتداع مسميات تبدو إسلامية سترا وحماية للمظالم الاجتماعية، وفاتحا لطريق الإثراء الحرام مع سياسة «انفتاح السداح مداح»، وساعيا فى كسب شعبية بدجل سياسى انتحل له شعار «العلم والإيمان»، وانتهى بأن ساق البلد إلى المذلة بمعاهدة السلام والمعونة الأمريكية الضامنة، وخلع مصر من موقع القيادة عربيا بدعوى إنشاء ما أسماه وقتها «جامعة الشعوب الإسلامية»، وتصور أنه يفحم معارضيه بوصف نفسه بأنه «الرئيس المسلم لدولة مسلمة»، وانتهى بالبلد إلى عارها المتصل إلى الآن، متخفيا فى «زبيبة صلاة» كانت تتوسط جبهته، وصار مثالا يحتذيه الرئيس مرسى الآن، صحيح أن قدرات السادات الشخصية كانت أكبر، ولا تقارن إلى تواضع مواهب مرسي، والأخير يقلد السادات فى المظاهر، وإن كان يضيف إليها مددا جديدا بحكم خلفيته الإخوانية، ويبالغ فى أداء صلواته وتراويحه علانية رياء للناس، ويصلى كل جمعة فى محافظة مختلفة عن الأخرى، ويستعد لاعتكاف العشر الأواخر من رمضان فى قصر «المنتزه» الفاخر، واللهم لا اعتراض على صلوات مرسى وتراويحه واعتكافاته، فقد تفيده عند ربه علام الغيوب والقلوب، تماما كما قد تفيد الصلوات أى مسلم، وتجلب له رحمة وعفو ربه الكريم، قد يستفيد مرسى من صلواته، قد يستفيد لشخصه، لكن مظاهر تدينه لا تجعل منه بالضرورة رئيسا حقيقيا، ولا قائدا يعتد به، ولا تصنع الفارق بينه وبين مبارك، فكلاهما عنوان للمحنة الوطنية والظلم الاجتماعي، وحكومة مرسى «التكنوخوانية» هى مجرد تكرار لحكومات «التكنومبارك»، ومع مراعاة فروق التوقيت واللحى. نعم، مرسى يريد أن يقنعنا أنه مسلم متدين، ولا بأس، لكن تقوى الله شىء آخر، تقوى الله تعنى السعى لاستقلال مصر لا نيل بركة المستعمرين الأمريكان، تقوى الله تعنى الانحياز للشعب الأفقر لا للطبقة الأغنى، تقوى الله تعنى أن يكون الرئيس قائدا لا متدروشا، فاتق الله يامرسى، اتق الله فينا وفى الإسلام الذى تتمسح بمظاهره لا بجواهره نشر بالعدد 607 تاريخ 30/7/2012