ثمة ألف سبب وسبب للغضب فى مصر الآن، لكن ليس من بينها غضب للإخوان، بل ثمة غضب من الإخوان، فقد أصبحت كلمة الإخوان مرادفة للعنف وإسالة الدماء والعبوات الناسفة، وتكونت حالة من الكراهية الشعبية المستحكمة للإخوان، أخذت للأسف بعضا من إنسانية المجتمع المصرى، وجعلته مستعدا للتفرقة فى الدم، والبكاء على الضحايا إلا إن يكونوا من الإخوان، فلا بواكى لهم ولا عليهم، وهو تطور سلبى خطير، قد يتحمل الإخوان جانبا عظيما من أسبابه، بلجوئهم الجارف إلى اختيار العنف، وتعويضهم لبؤس الواقع والسياسة بفسحة الخيال، واستغراقهم المرضى فى الأوهام على نحو ما يبدو فيما يلى من سطور وهم الإخوان الأول، هو أن بوسعهم أن يشعلوا ثورة فى مصر، بينما الثورة الإخوانية مستحيلة التحقق، وقد جرب الإخوان حظهم، وأعلنوا عن أكثر من مئة ثورة خلال عام ونصف العام بعد إزاحة حكم الإخوان، ولم تنجح من الثورات المئة ثورة واحدة يتيمة، ودون أن يتوقف الإخوان ليتبينوا، أو ليسألوا عن سبب أو أسباب الفشل الدرامى المتكرر، ولو سألوا لعرفوا، فلم تكن قيادة الإخوان ثورية فى أى مرحلة من مراحلها، لا فى زمن حسن البنا المؤسس، ولا فى طور الإخوان الأخير، والذى تحولت فيه قيادة الإخوان إلى مزيج من دعاة التكفير المبطن ورجال «البيزنس»، وهذه خلطة عنف لا خلطة ثورة، وتفسر تخلف الإخوان طوال العقود الأخيرة عن الدعوة لفكرة الثورة الشعبية، وإلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011 من خارجهم، ودون أن يكونوا من الدعاة أو المبادرين إليها، وإن لحقوا بها بعد أن ظهرت بوادر نجاحها فى الإطاحة بمبارك، وعلى أمل ركوب الفرصة إلى السلطة، فلم يكن الإخوان أبدا قوة ثورية، ولا حتى بمعايير «الثورة الدينية» التى تبنتها جماعات أكثر تشددا، وعلى طريقة «القاعدة» و«داعش» وأخواتها، وهكذا ظل الإخوان دائما فى «البين بين»، فلا هم دعاة لثورة بالمعنى الدينى، ولا هم دعاة للثورة بالمعنى الاجتماعى الديمقراطى، وقد استعاضوا عن الوضوح بخليط من كلام مرتبك عن الشريعة أحيانا، أو عن تقديم الحرية على الشريعة فى أحيان أخرى، وهو ما خلق أزمة فى بنية الجماعة، والتى كانت قد توسعت وتضخمت، وضمت أطيافا هائلة من الطبقة الوسطى الحديثة بطبعها، والنافرة من أفكار التكفير وممارسة العنف، ودون أن يتغير فكر وسلوك القيادة المتحكمة، والتى ظلت أسيرة لفكرة سيد قطب عن تجهيل المجتمع وقتاله إن أمكن، وهو ما جعل الجماعة فى محنة حقيقية مع تسلم السلطة، فقد توارت أفكار المشاركة لا المغالبة، وطغت فكرة التمكين والاستحواذ، وتقويض دولة المصريين لإحلال دولة الجماعة، وهو ما كان سببا مباشرا لثورة الإطاحة بحكم الإخوان، فوق برهان التجربة الذى كان ضروريا، وانكشاف تطابق اختيارات جماعة الإخوان مع اختيارات جماعة مبارك، وزوال «التيكت» الإسلامى الملصق فوق بضاعة مبارك ذاتها، وضعف وكابوسية الإدارة بحكم انعدام الخبرة، ووضوح التوجه الاجتماعى الاقتصادى الممالئ لمصالح «رأسمالية المحاسيب» المسيطرة نفسها، وتداول القيادة من رجال «بيزنس» مبارك إلى رجال «بيزنس» الإخوان، وميل المصالح إلى التصالح، فى تجربة كانت صادمة حتى لقطاعات من إخوان الطبقة الوسطى، والتى لا تشارك فى الدعوات لثورات الإخوان الآن، ولا فى المظاهرات التى ظلت تتضاءل فى الحجم والانتشار الجغرافى، وإلى أن انكمشت فى نقاط جغرافيا بعينها لا تتغير، على حواف المدن الكبرى، أو فى قرى متناثرة بالريف والصعيد، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت البؤس، والذى تستفيد منه السلفية التكفيرية لترويج فكرتها عن الخلاص الدينى، وتخلط أوراقها بأوراق الإخوان، وتحل فكرة العنف العشوائى محل فكرة الثورة الاجتماعية الديمقراطية السلمية . وانكشاف وهم الثورة الإخوانية يؤدى بالجماعة إلى وهم آخر، فلم تعد من قاعدة شعبية مناسبة لدعم فكرة الثورة السلمية، وقد كانت للإخوان شعبية طاغية طافحة حتى قبل سنوات، جرى تجريفها مع انكشاف الحقائق للناس، وأضاعت قيادة الإخوان أغلب ما تبقى منها بأخطاء الحكم، وبخطايا ما جرى بعده، وبصورة سهلت دواعى استخدام القوة الأمنية الدموية المفرطة ضدهم، وبلا مبالاة تليق من أغلب المصريين، سواء كانوا من مؤيدى النظام أو من معارضيه السلميين، وهو ما أدى لمزيد من سوء الموقف للإخوان، ودون أن يظهر بينهم صوت عاقل، يتوقف أو يسأل عن المآلات المهلكة، والتى تضيع حريات ودماء زهرة شباب وشابات الإخوان، فلم يصغ الإخوان سياسة رشيدة لمنع المزيد من التدهور، بل خضعوا لأهواء ورغبات شركاء وداعمين إقليميين ودوليين، وانتقلوا من وهم الثورة التى لا تتم، إلى الوهم الآخر، وهو إشعال حرائق الانتقام من السلطات ومن الشعب نفسه، وتكوين جماعات عنف إرهابى صريح بأسماء لا تحصى، وعلى طريقة «حسم» و«مجهولون» و«العقاب» وهلم جرا، لاتستهدف قتل رجال الجيش والشرطة وحدهم، بل اغتيال كل من يصادف فى الطريق، وإشاعة الفزع العام، وتحطيم أبراج الكهرباء وخطوط الغاز ومحطات المياه والصرف الصحى، وقطع الطرق، وإحراق عربات الترام والسكك الحديدية، والتدمير المجانى لكل مظاهر الحياة، وعلى ظن عظيم البؤس، وهو أنهم يثيرون حنق الناس ضد النظام، بينما هم لا يجلبون الغضب إلا على الإخوان وسيرتهم، ويدعمون النظام الذى يريدون إقصاءه، ويندفعون إلى جحيم تحرقهم ناره، وعلى طريقة «الانتفاضة المسلحة « التى أشعلوها فى حى المطرية الفقير شرق القاهرة، والتى جعلت بينهم وبين الناس سدا لا يفتح، فوق أنها لا تؤذى دولة بحجم الدولة المصرية، ولا تقوض أركانها كما يحلمون، فالإرهاب لا ينجح سوى فى جولات عابرة ، ومن المستحيل هزيمة الدولة المصرية بطريق العنف، ولسبب بسيط ظاهر، هو نفور المصريين الغريزى من نداءات العنف، والامتزاج إلى حد الاندماج بين المصريين ودولتهم، فالدولة فى مصر ليست مجرد كيان مادى، بل هى أى الدولة عقيدة معنوية غلابة عند المصريين، وصلابة الدولة المصرية فوق مقدرة أى جماعة على التحطيم، فلدى الدولة المصرية أفضل جيوش المنطقة، ولديها جهاز أمنى ضخم قابل لمزيد من اكتساب التكنولوجيا والكفاءة والحرفية، ثم أن جغرافيا الدولة المصرية مما لا يقبل الانتقاص ولا التفكيك، وقد تعرضت مصر طوال تاريخها الألفى لعشرات الاحتلالات الخارجية، استمر بعضها لعشرة قرون، ودون أن ينقص من مصر شبر أرض، فقد ظلت مصر دائما على «حطة إيد» مينا موحد القطرين، وقد تمر الدولة بلحظات ضعف، وقد تنزف مصر لكنها لاتذوى ولا تهلك أبدا، وقصارى ما تفعله جماعات الإرهاب، وسواء كانت من «داعش» الأصلية، أو من «دواعش» الإخوان المستحدثة، قصارى ما يمكن أن تفعله، وهى تركب أعلى ما فى خيلها، وتنفذ عمليات إرهاب غير مسبوقة فى تطورها وعدد ضحاياها، وعلى نحو ما جرى فى العريش مؤخرا، قصارى ما يمكن أن تفعله، هو المساعدة على اكتشاف الأخطاء ونواحى القصور والتراخى الأمنى، وتصليب عود الدولة المصرية، وإنعاش جهازها العصبى المركزى، وتعزيز التفاف أجهزتها من حول قلب الدولة الصلب ممثلا بالجيش، وهو ما يفسر بؤس اتخاذ الإخوان لوسيلة الإرهاب، وقد قالوا من قبل أنهم تعلموا من التجارب، وأنهم «طلقوا العنف ثلاثا»، ثم يعودون إلى البؤس نفسه الآن، وبما سرى بسلوك «الدعشنة» إلى صفوف قواعد الإخوان، وبوهم أنهم يحطمون الدولة، ويزلزلون قواعدها، بينما المحصلة هى زيادة قوة الدولة لا إضعافها، وزيادة المظالم لا إنهائها، وتسويغ القمع شعبيا، وإتاحة المجال واسعا للمزيد من دهس الحريات العامة. وبالجملة، لن يكون الإخوان عنوانا لثورة شعبية، ولن ينجحوا أبدا فى تقويض الدولة بالعنف، ومع كل فشل يحصدونه، تتزايد عزلتهم فى الداخل المصرى، فيما لن ينفعهم الاستقواء بالخارج، ولا إنشاء عشرات الفضائيات والصحف والكيانات خارج مصر، فمصر بلد راسخ، لا يتغير إلا من داخله، ولدى الشعب المصرى نفور غريزى هائل من معارضات تستقوى بالخارج، ولم تنجح معارضة خارجية واحدة طوال التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، فقد تكون ظروف مصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية شديدة الصعوبة، لكن مصر تبقى بلدا عظيما فخورا معتزا بذاته، وهى التى تصنع التاريخ، ولا يصنع لها التاريخ ولا المستقبل .