فى وداع من لن يرحل عنا أبداً أنا أنعى نفسى، وأنعى صديقى وأخى وشريك التجربة ورفيق العمر ورئيس مجلس إدارتى وناشري، رائد الصحافة الخاصة فى مصر، المقاتل عصام اسماعيل فهمى. أنعى مصر كلها فى رحيل نموذج رجل مصرى من عابدين، جدع شهم دوغرى مكافح عصامى. أنعى جزءا من تاريخى وذكرياتى وتجربتى الصحفية، ومجدنا كصحافة مصرية واجهت الاستبداد، بالخيال والنضال والصلابة والفن والبهجة والسخرية. كانت مصر تعانى من جمود الصحافة الحكومية وقتها ومن فراغ الصحف الحزبية من معناها حتى جاء عصام فهمى رافعا راية الخيال الجديد. رغم واقعيته الشديدة وعمليته الواضحة إلا أنه كان حالما كبيرا، يمشى فى شوارع القاهرة وعلى أرصفتها التى يحفظها وينقشها على كفه حالما بجرائد جديدة غير هذه التى يراها ويقرأها كل يوم. كان قارئا محترفا هائلا للصحف ، كان خبيرا بحلمه وفى حلمه، وحققه. طلع القمر ومسك حتة من السما، ونقل الصحافة المصرية من عصر إلى عصر. نعم بدأ عصر صحافة هذا الرجل فى نهاية عام 1995 كان نهاية مرحلة فى عمر الصحافة المؤممة والحزبية، وبدأ عصام فهمى يشق بعصاه البحر، ومن يومها وحتى الآن كل الصحف الموجودة خرجت من معطفه ومن تحت يده. لم يكن يتعالى على الربح، لأن الربح معناه ببساطة أنه مستقل وناجح، يكره الخسارة (رغم أنه زملكاوى وقد تعودنا عليها ) ويسعى للمكسب، لكن المكسب يأتى بالعرق والجهد والشقا ، ويأتى بأكثر من هذا كله يأتى بالحرية. عصام فهمى كان حراً، حراً فى تفكيره وفى قراراته وفى أحلامه وفى مشروعاته، لهذا كان لا يحب الشركاء لأنهم يعطلون قدرته على المغامرة فشعار عصام فهمى أن يفوز باللذة كل مغامر، ولذة عصام فهمى كانت الصحافة والنشر. كان يقرأ عناوين الصفحة الأولى فينبئك بمنتهى الثقة أن هذا العدد سوف يبيع أكثر أو لن يتفوق على العدد السابق أو يكسر الدنيا أو يكسرها فوق دماغنا. لم أر فى طريقى المهنى محترفا محبا لمهنته شغوفا بصنعته بارعا فى شغلته مثله أبدا، هو مؤسس ورائد وحالم الصحافة الخاصة، وقد اختارنى فى لحظة كنت أصغر، رئيس تحرير فى مصر كنت لم أكمل الثلاثين من عمرى وعملنا «الدستور»، جورنال خاص فى وجه كل الصحافة القديمة، ونجحنا نجاحا خرافيا. تعرض لضغوط رهيبة من الدولة للإطاحة بإبراهيم عيسى، وضرائب ومحاكم وتهديدات وترويعات، لم يضعف ولم ينخ إطلاقا، كان بمنتهى القوة والبسالة والجسارة، كان عنده قدرة ورؤية رهيبة، والفرق بينه وبين مالكى الصحف الآخرين، أنهم يملكون مصانع وشركات وأعمالا تجارية كبيرة ومعها جريدة، هو معندوش غير جورنال ومبيشتغلش غير ناشر، ومش عايز حاجة غير إنه يفضل ناشر ومالك جريدة. فاز فى كل معاركه وانهزم فى معركته الأخيرة، المرض. هذا الضحوك المتألق بهجة الأكول المتحمس الساخر العصبى الذى لا يهدأ حركة ولا أفكارا، نزع منه المرض أعز ما يملك، حيويته، ثم نزع منه أعز ما نملكه فيه كأخوة وعائلة وزملاء، نزع حياته. الصحافة المصرية خسرت ناشرا عظيما، رحم الله رائد الصحافة الخاصة فى مصر. وخسرنا جميعا صديقا رائعا، وخسرت عائلته والدا حنونا عطوفا فياضا فى حبه (عرفته من قرابة سبعة وعشرين عاما، ولم يتغير على مدى كل هذه السنوات بريق عينيه حبا وولها وفرحا كلما تكلم عن ابنته نهال). لكن عصام فهمى كما كل الناجحين والصادقين لا يموتون أبدا فى قلوب أبنائهم، وزملائهم وفى جدران أعمالهم التى شيدوها، وأحلامهم التى حققوها، وفى ذكريات أصدقائهم وأحبائهم، ثم إن اللى خلف أحمد عصام فهمى مامتش، فهو الابن البار، تلميذ والده وشريكه فى الأحلام والنجاح والشهامة والجدعنة والمرجلة والمغامرة. عن أى موت هذا الذى أتكلم عنه؟ أنا أسمع صوت عصام فهمى الآن وهو يصيح غاضبا وعنيدا (آه كم كان عنيدا لا يلين ) وهو يتوعد مسئولا هدده بإغلاق الجورنال قائلا بطريقته العصبية التى عرفها كل من عرفه: والله العظيم لأطلع عين أمه