الشاعر بيرم التونسى هو أكبر ناقد ساخر للحياة اليومية المصرية فى جميع الأوقات والأحوال، وهو يمتلك مقدرة مبهرة على تلوين الأداء الفنى وفقا لطبيعة الموضوع. وكان من الطبيعى أن تتعدد اللقطات الشعرية التى يرصد فيها بيرم آراءه ومواقفه من المجتمع خلال شهر رمضان، وقد اخترنا منها ثلاثة نماذج بمناسبة الشهر الكريم. فى القصيدة الأولى يكتسى صوت بيرم بمسحة جادة، يدعو فيها الصائم إلى الالتزام بالابتعاد عن كافة ألوان المعاصى واللهو حتى يصبح صيامه عبادة حقيقية وليس لونا من ألوان إنقاص الوزن، حيث يقول: * * * يا صايمْ صيام الشرابْ والطعام صيامك حلالْ، أو صيامك حرامْ لسانَكْ يصومْ.. وعِينَكْ تِصُومْ وإيْدكْ تِصومْ عن جَميعْ الأَثام * * * يِصُومْ اللسانْ إذا كانْ يُصانْ لا يغتابْ فلان ولا يْسِىءْ فلان وخلِّى المِزَاحْ ولو كان مُبَاحْ ومعظم ذنوبنا سببها الكلام * * * وعينكْ تصونها عن الفاتناتْ عن العاريات، عن الضاحكات، عن المائلات لا تجمع ما بين الصيام والآهات واذا كنت ناوى..بلاش القهاوى وتنوى فى بيتك على الاعتصام * * * بلاش الملامةْ وبلاش الأذيَّة إذا كنت تِأْذِى الضعيف واليتيم بإيدك يا صايم، صيامك رِجِيم وإيدك تصوم عن جميع الآثام ورمضان كريم يحب الكرام ويحييكم الله إلى كل عام ومن الطريف أن بيرم قد التفت منذ وقت مبكر إلى ارتباط الشهر الكريم بالذهاب إلى المقاهى، ولا أدرى ماذا كان يمكن أن يكتب الآن بعد أن تحول هذا الأمر إلى ظاهرة عامة لدى البنين والبنات أيضا، وأصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بتدخين الشيشة رغم أنف الأطباء وتلوث البيئة وإنفلونزا الخنازير. أما القصيدة الثانية فيمتد خلالها أسلوب بيرم الجاد، لكنه هذه المرة يفسح مجالا أرحب لنقد الخطباء الذين يتعمدون إطالة الخطبة فى شهر رمضان بحديث مكرور، ويطلب منهم الاقتداء بخطب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى البلاغة والقِصَر، حيث يقول: خُطَبْ النَّبِى سَجِّلُوها فى كُتُب خمسه وكل خُطْبهْ سطورْها منْ دهبْ خمسه محندقه يحفظوها خمسه من خمسه مُشَوِّقَهْ يشْتِهِيها خمسه فى خمسه * * * قَعَدْنا فى الشمسْ نِسْمَعْ والخطيبْ فى أمَانْ السَّقْفْ فُوقُهْ، يِكِنُّه مِنْ لَظَى النيرانْ خمسه يفهِّمْنا إن الشهرْ ده رمضان وخمسه، فَضْل الصيام فى صِحِّة الأَبْدان وخمسة يِوْصِفْ عِقابْ الفاطِر الخَزْيان وخمسه فيها يعيدْ كُل اللِّى قالهْ كمان وخمسه فيها يِحَذَّرْنا مِن النسيان واللِّى فِهِمْ خُطْبِتُه، واحدْ على خَمْسه !! ويتجلى ذكاء بيرم التونسى الفنى والاجتماعى بوضوح خلال المقطع الأول من القصيدة،حيث يتمثل الجانب الفنى فى كتابة المقطع بأسلوب الموال الذى تنتهى سطوره المتعددة بكلمة واحدة يتبدل معناها باختلاف السياق، أما الذكاء الاجتماعى فيتمثل فى تعظيم خطب الرسول الكريم وضرب المثل بها بداية، حتى لا يُتَّهم الشاعر فى دينه لمجرد أنه قد تعرض بالنقد البنَّاء لبعض خطباء المساجد. أما القصيدة الثالثة والأخيرة فينتقل بيرم خلالها إلى السخرية المُرَّة من مفارقة تصادفنا هذا العام أيضا، وهى وقوع شهر رمضان ضمن شهور الصيف والتصييف، وما أدراك ما التصييف،حيث يقول: فى العامْ دا رمضان يسلِّى وافى على بْلاجْ ستانلى واتْجَلى إبليس علينا بكل معْنى التجلِّى * * * يا بو العيون فى الحقيقة الأمر ما فيهْش ضِيقَه القعْدة قعْده بريئهْ وانت اللى عمَّال تِفَلِّى * * * ما لْها الخُصور النحيلة تِجذِبها أرداف تِقيله وفْنونْ يا راجلْ جميلهْ عليها بَشَوَات تِصَلِّى * * * نِعْطَشْ ونِرْوِى النَوَاظِرْ ونْجوعْ ونِشْبَعْ مناظرْ والبحرْ مليَان يا شاطرْ أشكال وأصناف تِحَلِّى * * * جَنْبَكْ هِنَا صحْنْ قِشْطه وهناك تشوفْ وِرْكْ بَطَّه وشىء بمايوه تَغَطَّىَ وشِى مايوهْ رُبْع مِللِّى * * * اليوم يفوت يا جماعهْ فى ساعهْ أو رُبْع ساعة على الْعطاشَهْ الجواعه يا ريتْنا صايمين تَملِّى إن هذه القصيدة الساخرة التى تعتمد فى مجملها على المفارقة الواضحة بين متطلبات رمضان ومتطلبات التصييف على الشواطئ، تتضمن بيتا عبقريا من حيث التركيب اللغوى المكثف للمفارقة، يصلح لأن يكون نموذجا أعلى للمفارقة البلاغية فى الشعر العربى جملة، وهو البيت القائل: نعطش ونروى النواظر ونجوع ونشبع مناظر إنه بيت القصيد كما قال العرب القدماء، وكل عام وأنتم بخير، ورمضان كريم