عدت من عملى بعد يوم شاق وطويل.. ألهث أنفاسى وسط ضجيج الزحمة، وعوادم السيارات، وغبار الشارع، وحرارة الجو التى نحلت طبقة رأسى الخارجية.. أشم رائحة شياط شعرى.. وهنا تبدأ مخيلتى فى الانطلاق بلا توقف، ولأن الإرهاق والجوع أكثر ما يمكننى الشعور به الآن.. فاختصرت أحلام اليقظة فى تخيل ماسآكله عندما أصل منزلى. أشم الآن رائحة «الكشرى المصرى» – أكثر المطاعم انتشارا فى مصر أكاد أبكى بعد أن نفذت إلى أنفى رائحة البصل المحمر المرشوش على وجه طبق الكشرى بجانبه الحمص والعدس وهذه الصلصة وتلك الشطة وهاهى الدقة.. أحب الصلصة التى تجيد زوجتى صنعها فى البيت أكثر – فهى طاهية بارعة – لا يعيبها سوى حبها للسمك المشوى، الذى أعدّته البارحة، وتحججت وقتها أنى أكلت فى العمل. وعندما وصل الفوسفور إلى جهازها العصبى منبها إياها بضرورة أخذ قيلولة قصيرة.. تسللت إلى المطبخ وأكلت ماتبقى منها من سلطة خضراء وبتنجان مخلل.. ثم انتقلت بمخيلتى إلى منظر تلك الدجاجات والتى قد تأرجحت على أسلاك الشواية فى منتهى الرشاقة مظهرة مفاتنها المحمرة بهدوء على رائحة الفحم.. بجانبها أسياخ الكفتة.. وعمود الشاورما.. يقف أمامهم بكل جرأة وكأنه قد تم تعيينه حديثا «بودى جارد» يحاول إثبات جدارته.. ولأنى أكول بيتى من الدرجة الأولى.. تذكرت آخر مرة صنعت لنا فيها زوجتى صينية الكفتة بشرائح البطاطس مع شرائح الجزر يتخللها شرائح الكوسة، مُشرّبة بعصير الطماطم، ومرصعة بفصوص الثوم، وأعطتها اسم «خلطبيطة بالصلصة» حتى يأكلها الأولاد.. تفوح رائحة التوابل الخارجة من البوتوجاز.. والتى انطلقت منه إلى شفاط المطبخ الذى قام بدوره بتوزيع الرائحة فى الجو حتى شممتها من أول دخولى الشارع وصولاً إلى المنزل مع تشجيع حار من عيون كل من بالشارع والتى كادت تنطق «يا للى هتتغدى كفته النهارده..». ربما أصل إلى المنزل اليوم لأجد فى استقبالى رائحة محشى الكرنب وورق العنب التى كانت تحضّر له ليلة أمس وغالبا ما تقوم بجانبه بطبخ «بطة بلدى» قلّما وجدت لها طبقا بحجمها وهى تضعها أمامى بكامل أعضائها مقيدة محمرة يفوح منها رائحة تثير ذاكرتى لتعود بى سريعا إلى أكل أمى.. هااااه.. تذكرت الآن ملوخية أمى.. وكل شىء من أمى لابد وأن يكون شهيا.. ابتداء بطبق البامية والبصارة والسبانخ والمسقعة.. وعندما كانت تسبّك لنا – قبل وجود أطباء وخبراء التغذية والرشاقة – حلة البسلة بالجزر والبطاطس معها قطع اللحم.. أو حلة الفاصوليا أو اللوبيا أو الفول الأخضر.. حتى وإن اكتفت فى الغداء بالأرز الغارق فى معلقة السمن البلدى بجانبه البطاطس المحمرة والبتنجان والفلفل المحمر والبيض المسلوق المحمر كذلك – بالعند فى بتوع الأكل الصحى – كنا نأكل بمنتهى الاستمتاع واللذة.. .. أو حلة المكرونة بالصلصة التى كان يتم القضاء عليها نهائيا قبل نزولها من على النار دون إتمام نضجها بواسطتى أنا وأخى.. وهنا وجدت نفسى قد وصلت أمام باب منزلى.. لا أعتقد أنى شممت شيئا مميزا من أول الشارع.. ربما يكون الشفاط معطلاً. لا أتذكر أن أحدهم كاد يوقعنى بنظرته الحادة أمام بيتى.. ربما حدث ولكنى لم ألحظه من شبورة الدموع الحارّة التى نزلت من عينى تضامنا مع جسمى الحرّان.. أخرجت مفاتيحى من جيبى.. تتسارع دقات قلبى.. ترتعد أصابعى.. ولا أعلم إن كانت تلك الأصوات من تقلصات الجوع أو رهبة الترقب.. أفتح الباب وكلى شغف فى انتظار المفاجأة اللذيذة التى ستتلقفنى فى منتهى المودة والحنان والتى ستعوضنى عن كل خلية فقدتها فى تلك الساعات الطويلة من العمل وكل قطرة عرق نزلت منى فى هذا اليوم الحارّ وكل خطوة مشيتها فى طريقى إليها عائدا إلى جنتى حيث ترقد راحتى فى انتظارى. وياللهناء.. قد تم وضع الغداء على السفرة.. تستقبلنى زوجتى بالعبارة الأكثر كذبا وخداعا فى العالم «حماتك بتحبك» انتقلت عيناى سريعا من ضحكتها الماكرة إلى السفرة.. لأجد السمك المشوى «البايت» الذى تركته بالأمس دون رد قاطع.. قد تم الاحتفاظ به ليُقدّم لى اليوم يسألنى عن سبب مجافاتى له يحمل فى يديه عربون صداقة وصلح ومحبة فى هدية بسيطة.. بعض السلطة الطازجة المزركشة والمشجرة.. بجانبها زوج من البصل الأخضرالمقلّم ذى النوع الممتاز.. يتوسطهما طبق المخلل القيّم.. فوقهم كارت معايدة كُتب فيه بكل رقة.. «مع أطيب التمنيات بحياة أكثر انتعاشا لك ولكل أفراد العائلة الكريمة.. تناول الكلورتس بعد الأكل مباشرة». سحبت الكارت وكتبت على ظهره: «أطلقت سراحك» .. .. .مخيلتى.. .. .