على الحركة الديمقراطية فى مصر والإشارة هنا إلى أصوات ومجموعات تحضر فى أوساط بعض القطاعات الشبابية والطلابية والعمالية كما فى بعض مساحات المجتمع المدنى وعلى هوامش النقاش العام، ويتواصل دون إطار تنظيمى واضح / فعال يجمعها الدفاع عن سيادة القانون والحقوق والحريات والمطالبة بمدنية الحكم التى تعنى إبعاد المؤسسات العسكرية والأمنية عن شئونه والفصل بينه وبين التوظيف الشمولى للدين وبتداول السلطة عبر الاختيار الحر للمواطن وعبر مشاركته الطوعية فى الحياة السياسية كنشاط سلمى وتعددى وحر وبالعدالة الانتقالية لإيقاف الانتهاكات وإنهاء الإفلات من العقاب، أن تدرك أن التراجعات المتراكمة التى تواجهها اليوم تمثل جزءا من كل يؤثر فينا ويحيط بنا ويتجاوز مصر وبلاد العرب هو الأزمة العالمية للفكرة الديمقراطية وقيمها. وأفصل اليوم ما أجملته السبت الماضى من عناصر أزمة الديمقراطية غربا وشمالا، ثم شرقا وجنوبا، وبين ظهرانينا. فالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية – وامتدادات الغرب فى اليابان واستراليا ونيوزيلندا البعيدة جغرافيا عن أمريكا الشمالية وأوروبا، وهى كانت تأتى تقليديا فى طليعة المجتمعات والدول التى يشار إليها إيجابيا فيما خص الالتزام بقيم سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات، تواجه اليوم وعلى نحو غير مسبوق عصفا منظما بالفكرة الديمقراطية وقيمها. ••• من جهة أولى، تتواصل انتكاسات سيادة القانون بسبب نزوع الحكومات المنتخبة فى الغرب الأمريكى والأوروبى للتغول أمنيا واستخباراتيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة، وتمرير القوانين الاستثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن باختزال وجوده الفردى والخاص وكذلك وجوده فى سياقات جماعية وعامة إلى "مكمن خطر" أو "مصدر تهديد" محتمل ينبغى بالضرورة إخضاعه للمراقبة وبالتبعية ضبطه والسيطرة عليه. من جهة ثانية، تفرغ هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية (والأخيرة تتكون داخل المؤسسات والأجهزة الرسمية وفى أروقة الخدمة العامة وبيروقراطية الدولة) ومعها المصالح الاقتصادية والمالية وجماعات ضغطها على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة هذه من الجوهر الديمقراطى 1) بقصرها ممارسة المواطن / الناخب لحق الاختيار الحر لممثليه (نوابه) التشريعيين والتنفيذيين على مجموعات محدودة العدد ودائمة التدوير عليه أن يختار من بينها، 2) باستبعاد قطاعات شعبية واسعة، بعضها مؤطر داخل النقابات العمالية والمهنية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى والمبادرات الطوعية للمواطنات وللمواطنين، من عمليات صناعة القرار العام والسياسات العامة ومن ثم الإلغاء شبه الكامل لإمكانياتهم الفعلية لجهة التأثير فى تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة الذى يترك لهيمنة النخب والمصالح الكبرى، 3) بغابات من الأسوار والحواجز المشيدة تارة بأدوات قانونية وسياسية وأخرى بأدوات بيروقراطية وإجرائية للفصل بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة وبين المواطنات والمواطنين الذين تتراجع بفداحة قدرتهم على الإدراك الواعى "لما يحدث" فى أروقة البرلمانات والحكومات، وتصدر لهم باستمرار انطباعات زائفة بشأن "تعقد حقائق وتشابك تفاصيل" دولاب العمل التشريعى والتنفيذى و"استعصائها" على فهم "العوام"، ويطلب منهم بالتبعية الاكتفاء بالمشاركة فى مواسم الانتخابات المتتالية والتعبير عن رضاهم أو رفضهم للقرارات والسياسات العامة (إن نجحوا فى إدراك حقائقها وفهم تفاصيلها) من خلال بطاقات التصويت، 4) ثم تؤدى هيمنة النخب والمصالح الكبرى على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، والاستعلاء الصارخ فى التعاطى مع المواطن ودوره فى صناعة القرارات والسياسات العامة إلى عزوف المواطن / الناخب عن المشاركة فى الانتخابات وهجره لمراكز الاقتراع وبطاقات التصويت، وكأنه بذلك وباختياره الحر يلغى حلقة الوصل الأخيرة بينه وبين الديمقراطية النيابية (أو التمثيلية) بعد أن استبعدته وهمشته بقسوة النخب والمصالح الكبرى. من جهة ثالثة، الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية بين الأغنياء وميسورى الحال والطبقات الوسطى وبين الفقراء ومحدودى الدخل والضعفاء من المهاجرين غير الشرعيين فى الغرب والتى يتزايد اتساعها بسبب انقلاب العدد الأكبر من الحكومات (باستثناء حكومات البلدان الاسكندنافية، والخبرات الألمانية والنمساوية والهولندية) على سياسات الرفاه وتخليها عن الكثير من مكونات وإجراءات العدالة الاجتماعية فى سياق الصعود السريع للبرامج النيوليبرالية؛ هذه الفجوات تبلور حقائق مؤلمة فى الغرب الأمريكى والأوروبى بها من التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة ومن تهميش بيئات سكانية كبيرة ما يسقط مبادئ تكافؤ الفرص والتوازن المجتمعى الضامن للكرامة الإنسانية وللعدالة الاجتماعية (فى حدودها الدنيا على الأقل) فى هوة سحيقة ويفقد تأسيسا على ذلك القيم الوطنية للفكرة الديمقراطية الكثير من مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية (وعد العدل والحق والحرية والمساواة) وفعاليتها المجتمعية والسياسية (وعد الرخاء والترقى الاجتماعى والمبادرة الفردية) ويحيى بعد موات الحضور المجتمعى والسياسى لمنظومتين من الأفكار غير الديمقراطية، اليمين الشعبوى / المتطرف ويسار الدولة الأبوية – بقسوة صادمة، تتكالب مثل هذه الحقائق المؤلمة اليوم على البلدان الأوروبية التى تتعرض لهزات اقتصادية ومالية عنيفة كاليونان وبعض بلدان البلقان، وبدرجات أقل حدة البرتغال وإسبانيا. من جهة رابعة، تحكم النخب الحزبية والسياسية والإدارية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية، وعلى الرغم من توفر ضمانات قانونية وإجرائية لصون حرية التعبير عن الرأى ولابتعاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن العبث بها ولمنع السطوة الاحتكارية، قبضتها على المجال العام عبر حقائق الثروة والنفوذ والملكية الخاصة لوسائل الإعلام ودور النشر وغيرها، وتوظف مساحاته أ) لتدوير قناعاتها ورؤاها وأنساقها مدعية احتكار الحق الحصرى للحديث باسم الأخلاق والإنسانية وقيم الديمقراطية التى يروج للتحايل على أزمتها العاصفة، ب) للتشكيك دون نقاش موضوعى وتعددى فى مصداقية منظومات الأفكار البديلة إن تلك التى تعترف بأزمة الديمقراطية وتبحث لها عن مخارج، أو الأحرى التى تسعى لتجاوز القيم الديمقراطية بشعبوية من اليمين أو أبوية من اليسار، وباستعلاء صارخ على حضورها المجتمعى والسياسى. أما خارج الغرب، فعناصر أزمة الفكرة الديمقراطية والتراجعات المستمرة التى يسجلها الالتزام بقيمها تتعلق بحضور بعض الأفكار الكبرى المناوئة للديمقراطية والقادرة على منازعة مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية ولفعاليتها المجتمعية والسياسية، وأبرزها التنمية السلطوية التى تفك الارتباط على نحو شامل بين التقدم العلمى والتكنولوجى والصناعى وتنافسية اقتصاد السوق الحر وبين اعتماد سيادة القانون وصون حقوق الإنسان والحريات وتداول السلطة وحضور حياة سياسية وحزبية تعددية وحماية الأقليات – والنموذج الصينى هو الأكثر إبهارا عالميا هنا. ••• كذلك يعمق من أزمة الفكرة الديمقراطية فى مخيلة وواقع الكثير من الأمم والشعوب زيف ادعاء الغرب الأمريكى والأوروبى دعم الديمقراطية والانتصار للحقوق وللحريات وللمساواة ولتقرير المصير خارج حدوده وتورط بعض حكوماته فى انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان، وفى توظيف واسع النطاق للأدوات العسكرية على نحو يتناقض مع قيم الديمقراطية وخيوطه الناظمة الوحيدة هى إما "الحروب المستمرة على الإرهاب" أو العصف بسيادة بعض الدول الوطنية غزوا واحتلالا وتدخلا أو استخدام القواعد العسكرية للإبقاء على حكومات مستبدة وسلطوية ضد المطالب والتطلعات العادلة للشعوب العادلة وتطلعاتها، بل وفى امتناع الغرب المتكرر عن توظيف أدواته العسكرية لإيقاف مذابح وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والتصفية العرقية والحروب الدينية حين تشتعل فى بلدان ومناطق لامصالح حيوية للغرب فيها أو حولها الحرب الأهلية فى البوسنة والهرسك وحرب الإبادة الجماعية فى رواندا فى التسعينيات، ومن قبلهما الكثير من الحروب والمذابح التى شهدها النصف الثانى من القرن العشرين. ولأن الغرب الأمريكى والأوروبى مازال يغلب الهيمنة على العالم واستتباع بلدانه على إنجاز التقدم الجماعى لبشرية تتوازن وتحقق أممها وشعوبها تنمية مستدامة تقضى على الفقر والتخلف والجهل وتتخلص من شرور الحروب والإرهاب والعنف وتتضامن علميا وتكنولوجيا وإنسانيا فى مواجهة الأخطار البيئية والكوارث الطبيعية والتحديات الصحية (كالايبولا اليوم) المتجاوزة لحدود الدول الوطنية، لم ترتب سياسات دعم التنمية الأمريكية والأوروبية وبرامج نقل المعرفة العلمية والتكنولوجية والصناعية إلى خارجه والتى دوما ما يروج لها باعتبارها ترجمة مباشرة للفكرة الديمقراطية وقيمها سوى القليل من النتائج الإيجابية الفعلية – والتى أعرفها هنا بخروج البلدان غير الغربية من وضعية التبعية للولايات المتحدة ولأوروبا ومن هوية المستهلكين الأبديين لإنتاج الغرب وتحولها إلى المشاركة والمنافسة فى التقدم العلمى والتكنولوجى والصناعى. أما فى مصر وبلاد العرب، فيضاف إلى العناصر سالفة الذكر لأزمة الفكرة الديمقراطية خارج الغرب مجموعة من العناصر الأخرى الناجمة عن انهيار / تفكك / تفتت الدولة الوطنية ومؤسساتها وأجهزتها وتهاوى السلم الأهلى للمجتمعات وتعرض المواطن لمظالم وانتهاكات مروعة لحقه المقدس فى الحياة وبالتبعية لحقوقه وحرياته الأخرى – ثلاثية انهيار الدولة الوطنية وتهاوى السلم الأهلى وضياع المواطن، بعبارة بديلة. ••• هنا، وعلى وقع تنامى الوزن المدمر لحركات طائفية وعرقية ودينية ومذهبية وقبلية وجماعات عنف وعصابات إرهاب، تستغل جميعا الفراغ الذى يحدثه تداعى مؤسسات وأجهزة الدولة الوطنية فى بلاد العرب وانتشار البيئات المجتمعية القابلة للعنف وللإرهاب فى ظل غياب السلم الأهلى وتراكم المظالم والانتهاكات وبسبب متواليات الاستبداد والتخلف والتطرف وتطور شبكات تسليح وتمويل وتنظيم وعضوية متخطية بعنف لحدود الدول وللترتيبات الأمنية التقليدية وعلى نحو يفرض جرائم مروعة ليست "داعش" إلا التعبير الأكثر وحشية ودموية لها؛ يستحيل الالتزام بالقيم الديمقراطية فى أحسن الأحوال إلى واقع مراوغ يستدعى الكثير والكثير من تضحيات شعوب عربية تثخنها بالكوارث والمآسى ثلاثية انهيار الدولة الوطنية وتهاوى السلم الأهلى وضياع المواطن، وقد تتلاشى قدرتها على تحمل المزيد ما لم تجتهد الحركات الديمقراطية العربية للربط بين سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات وبين لملمة أشلاء الدول واستعادة سلم المجتمعات والانتصار لحق الناس فى الحياة. أما فى أسوأ الأحوال، فإن الالتزام بالقيم الديمقراطية يصبح عنوان دعوة تصنف كدرب من دروب الخيال المجرد من المصداقية الأخلاقية والإنسانية ومنزوع الفاعلية المجتمعية والسياسية، خيال ينقلب عليه يوميا. أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة