ربما لا يتخيل أحد الحالمين برومانسية الشتاء والركض تحت المطر، أن يأتي إليهم المطر وهم جالسون في منازلهم، يحمون أسّرتهم بقطع «المشمع»، ويستظلون من رخات الشتاء بالأكياس البلاستيكية وأعواد البوص، ويتدفئون بنيران يشعلونها في باحة المنزل. هذا هو الحال مع آلاف الأسر من سكان العشوائيات والمناطق المهمشة، الذين يعيشون في بيوت لا أسقف لها، أو أسقفها متهالكة لا تقي من برد أو تحمي من مطر. في الإسكندريةالمدينة التي اشتهرت بالبناء المخالف وانهيار العقارات في أرقي أحيائها، يعيش على هامشها الآلاف في منازل بدائية البناء بالطوب بناها أصحابها باقتراض الأموال لشراء طوب أبيض وأسمنت، إلا أنه في الكثير من الحالات لم يقدروا على استكمال البناء، خاصة بناء الأسقف، فعاشوا بها بلا أسقف أو صنعوا لها أسقف بدائية من المشمع وأكياس البلاستيك، أو الخشب وأعواد البوص. «أم علاء» تعيش بين 4 حيطان فقط 4 حوائط فقط دون سقف، أي أنواع من السقف، ذلك هو حال منزل أم علاء التي تعيش وحيدة مع أبنائها الثلاثة في المنزل الذي بنته بمنطقة خورشيد شرق الإسكندرية، فبعد انفصالها عن زوجها عقب إصابتها بفيروس سي، وطرده لها وأبناؤهما من منزل الزوجية، وشرط أخوتها عليها التخلي عن أبنائها ليستضيفوها داخل منازلهم، وهنا وجدت أم علاء نفسها تسكن في أرض زراعية كانت قد استطاعت أن تدفع مقدم لها من عملها قبل زواجها. قطعتين من الخشب على بعض الطوب الأبيض، هو الكرسي الذي أعدته أم علاء لمحررة الشروق، لتجري معها حواراً قصيراً بينما الأمطار تتساقط علينا داخل المنزل. تقول أم علاء: "حين عرف زوجي بإصابتي بالفيروس؛ قال لي أنا مش هعيش مع واحدة ميتة، وطلقني، ثم ذهبت للعيش عند أخي ولكن زوجته رفضت استضافتي، كما رفضت أختي أيضًا أن أعيش معها بأولادي، واشترطت أن اتخلى عنهم لتوافق على أن أعيش معها وهو ما رفضته». حاولت المرأة المطلقة أن تستأجر شقة لتعيش بها مع أبناؤها، إلا أن تكاليف الإيجار باهظة بالنسبة لها، حيث لن تقل عن 1000 جنيه كبداية للتعاقد، و300 جنيه شهرياً، ولم يكن ذلك العائق الوحيد أمامها، فكونها امرأة مطلقة تعيش وحيدة مع أطفالها، جعل الكثير من السماسرة يرفضون تأجيرها أي شقق لها، حتي بعد أن تتفق معهم. وتواصل أم علاء سرد قصتها، قائلة: "تذكرت قطعة أرض، كنت قد دفعت مقدم لها، قبل زواجي حيث كنت أعمل في التطريز، إلا أنني لم أسدد باقي أقساطها؛ لذلك لا أستطيع بيعها لأشتري بيتاً، لذا لم يكن أمامي حلًا إلا الذهاب مع أولادي للعيش فيها». وتابعت "جلست في الأرض دون جدران لما يزيد عن 10 أيام، قبل أن يتبرع أحد الجيران لي بالطوب الذي بنيت به هذه الحوائط، إلا أني لا أملك حتي حق طعامي أنا وأولادي، ولا عمل لدي بسبب مرضي وحملي، فلم أستطيع بناء السقف". تواصل أم علاء التي وضعت أكياس بلاستيكية فوق قطع الكرتون الذي تنام عليه مع أبنائها، وبعض الأخشاب والأوراق التي تشعلها في المساء لتدفئتهم، قائلة: "في ليلة مسكت النار في المشمع اللي مغطية بيه العيال.. قلبي وقف من الخوف عليهم بقيت زي المجنونة بشيل التراب من الأرض واطفي بيه النار قبل ما توصل لحد فيهم». تتذكر أم علاء تلك الليلة التي تعرضت فيها حياتها هي وأولادها للخطر، متحدثة عن مخاوف عدة تحيط بها قائلة: "بموت من الخوف كل ليلة لحد ينط الحيطان دي ويدخل عليا أنا والعيال، كمان بخاف على الولاد من الكلاب اللي مالية الأرض"، تواصل، "كل أملي أن أستطيع بناء سقف يحميني، حتي لو بالقسط، واشتغل بعد ما أولد وأسدد ثمنه". «سيدة المنزل المهجور»: عايزة أسيب لبناتي مكان يسترهم قبل ما أموت للوهلة الأولي قد تظنه بيتاً مهجورًا يسكنه الأشباح، فبناؤه الرث والفجوات العديده في جدرانه لا توحي بأن عائلة بأكملها مكونة سبعة أشخاص تعيش بداخله، يقع البيت في منطقة حوض 12، إحدي العزب المهمشة لحي المنتزة بالإسكندرية. منذ ما يزيد عن 20 سنة قبل أن يتوفي والد زوج «الحاجة م.أ» ترك له ولأخوته أرض زراعية كان يعمل بها، ليبني عليها منزلاً جديداً يعيش فيه، ويترك منزل العائلة القديم المتهالك، لكن «الحاجة م.ا» لم تكن تملك ما يكفي من الأموال لتجعل أولادها يواصلون تعليمهم، وتبني ذلك المنزل. وتتابع «الحاجة م.أ» "فقلت العيش في البيت القديم المتهالك ذو الفجوات العديدة في الجدار، والسقف الذي لا يحمي من ماء ولا يقي من برد، في مقابل أن تدخل ابنتها الكبري كلية الصيدلية، والتي تليها كلية العلوم، ويواصل أولادها الثلاثة الصغار الباقيين تعليمهم في مراحل مختلفة". بكبرياء واضح قالت «الحاجة م.أ» ل«الشروق»، "أنا مش بشحت، ومعملتش حاجة أكتر من اللي أي أم المفروض تعمله، كل اللي أنا عايزاه قرض من أي حد أو جمعية تساعدني في بناء غرفة تأويني أنا وزوجي القعيد وأولادي، بدل البيت اللى أحجاره بتقع علينا يوم بعد يوم». وأشارت الحاجة «م.أ» إلى أن رفضت زواج أي من ابنتيها أو حتى إخراجهم من التعليم، من أجل العمل ومساعدتها، حيث تقول: «أنا مش هعيش لهم طول العمر، ومش هعرف أسيب لهم حاجة بعد ما أموت، لو جوزت واحدة وجوازتها فشلت أبقي كدة قضيت عليها، أنا مصممة أعلمهم وأخليهم يكملوا تعليمهم عشان يقدروا يقفوا علي رجليهم، ومش مستنية من حد فيهم حاجة، كل اللي أنا عايزاه أني أسيب لهم مكان يسترهم، ومبقاش مرعوبة بالليل طوبة تقع على حد فيهم». «الحاجة شامية» سقفها بوص ومشمع تستيقظ الحاجة شامية السيد، كل ليلة عقب صلاة الفجر، لتبداً في مهمة إزاحة مياه الأمطار من داخل المنزل، حتي تشرق الشمس، ثم تفاجأها السماء بأمطار من جديد، فتظل تعمل في إزاحة المياه حتي «تقف يداها من الوجع» بحسب تعبيرها. "الدنيا لما بتشتي بنعوم في البيت" بهذه الجملة تصف شامية السيد حال منزلها الذي تزوجت فيه من 15 عام بمنطقة حوض 12، إحدي عزب المنتزه، وسقط سقفه منذ خمسة سنوات وتعيش فيه برفقة زوجها، وأبنائها الأربعة. وتقول "أقل سقف هيتكلف 10 آلاف جنيه وأنا لا أعمل وزوجي على باب الله يسرح بفاكهة في السوق، نضع بوص ومشمع؛ إلي أن يساعدنا أحد في بناء سقف المنزل ليحمينا من الأمطار". وهناك العديد من القصص والحكايات، عن أشخاص ألقت بهم الظروف، وأوصدت أمامهم الأبواب، ليعيشوا حياة غير الحياة، ويصبح أقصى أحلامهم مجرد بيت له سقف سليم. ولم ينتهي الحال على تلك الوقائع فقط، فمنذ ثلاثة أعوام بدأت عدد من الجمعيات الخيرية العمل في مساعدة الأسر في المناطق النائية التي تعيش في منازل دون أسقف، ويقول حمدي غريب مسئول بنك «إنسان» بجمعية صناع الحياة، إن «هناك مشروع في الجمعية يسمي "إعمار" وهو يعمل على مساعدة الأسر الفقيرة في العشوائيات على ترميم بيوتهم، أو بناء أسقف". ويتابع غريب أن "مشروع إعمار استطاع في العام الأول بناء 17 سقف، وفي العام الثاني، بنينا 33 سقف، وهذا العام بنينا 38 سقف، إضافة إلي 12 آخرين جاري العمل عليهم حتي نهاية العام". ووفقاً لغريب، فإن "تكلفة بناء السقف الواحد تتراوح ما بين 12 إلي 16 الف جنيه، حسب مساحة البيت، وحسب حالته".