وصلنا إلى شرم الشيخ حيث انعقدت القمة ال15 لحركة عدم الانحياز ومصير الحوار الذى وعد مسئولو السفارة الإيرانية فى القاهرة بتوفيره ل«الشروق» مع منوشهر متقى، وزير خارجية إيران ورئيس وفدها للقمة يبدو معلقا فى الهواء. فقد غادر متقى شرم الشيخ عائدا إلى طهران عشية انعقاد القمة، وبعد انتهاء الاجتماعات التحضيرية على المستوى الوزارى. وفيما تجمع بضعة مئات من المراسلين الصحفيين صبيحة الانعقاد فى المركز الإعلامى الملحق بقاعة المؤتمرات بشرم الشيخ يترقبون دخول رؤساء الوفود إلى القاعة، يتابعونه لاعتبارات أمنية عبر شاشات تليفزيونية عريضة، ويبقون بفضلها أسرى اختيارات الشخص المسئول عن توجيه الكاميرا داخل القاعة، فقد كان السؤال الأبرز والأكثر إلحاحا هو: هل عاد متقى بالفعل؟ الاهتمام بإيران وبالتمثيل الإيرانى فى القمة ليس مستغربا، وكان الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد قد أعرب فى وقت سابق عن نيته الحضور على رأس وفد بلاده، ثم عاد وعدل عن ذلك. فطهران من أبرز اللاعبين فى الشرق الأوسط، كبيرا كان أم مصغرا، تمتلك مفاتيح وكروت ضغط وتفاوض ومجالات تأثير ونفوذا فى أهم قضاياه وأكثر بؤر التوتر فيه خطورة وإلحاحا، من أفغانستانوباكستان مرورا بالعراق ولبنان وحتى غزة. المواجهة بين الغرب بقيادة الولاياتالمتحدةوإيران حول ملفها النووى تمثل أحد أهم مجالات التوتر فى العلاقات الدولية فى «عصر أوباما»، وربما تكون الاختبار الأهم لآفاق وحدود التغيير فى السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس الأمريكى الجديد، خاصة وقد بدأ ولايته باستبعاد الخيار العسكرى، وهو الخيار الذى بدا الرئيس السابق جورج بوش يعض على لجامه حتى آخر أيامه فى البيت الأبيض، وجاء رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى الحكم فى إسرائيل واعدا باتخاذه. عاد متقى إلى شرم الشيخ ليقود وفد بلاده فى أعمال القمة التى استمرت يومين، وازدحمت بكلمات الزعماء ورؤساء الدول، الذين نادرا ما التزم أحدهم بما طلبه منهم الرئيس حسنى مبارك بوصفه رئيس المؤتمر، وهو أن يتحدثوا فيما لا يتجاوز سبع دقائق. مشكلة إجراء الحوار أصبحت مشكلة وقت إذن، وفى المركز الإعلامى يجزم الجميع بأن الوفد الإيرانى قد أعلن أن متقى لن يجرى حوارات صحفية مع أحد، فيما الاتصالات المتوالية بين «الشروق» وبين المسئولين فى الوفد تكشف عن تأكيدات بإجراء الحوار ولكن بدون تحديد موعد محدد لإجرائه. وكان أن أرجئ الحوار حتى انتهاء أعمال القمة، لنلتقى وزير الخارجية الإيرانى فى جناحه فى الفندق، محاصرين زمنيا بين عودة الوفد من قاعة المؤتمرات وموعد سفر متقى عائدا إلى طهران. وبعد ترحيب دافئ من القائم بالأعمال ومن الوزير أبلغنا أن الزمن المتاح للحوار هو ربع الساعة فقط، وافقنا لباقة ونيتنا أن نمد من أمد ربع الساعة تلك إلى أبعد ما نستطيع، فكان أن حصلنا على أكثر قليلا من نصف الساعة، مع وعد باستكمال الحوار فى طهران. وكنا قد ذهبنا للقاء مع وزير الخارجية الإيرانى وهاجس أساسى يسيطر على أذهاننا: هل سرقت السكين إيران؟ فمنذ عامين تقريبا أصدر تشاتام هاوس فى لندن، وهو يعد أقدم مركز للفكر الاستراتيجى فى العالم ومن بين أبرز تلك المراكز فى يومنا هذا، أصدر تقريرا مهما عن إيران، وصفها فيه بأنها المستفيد الأول من الحرب التى أطلقها الرئيس الأمريكى جورج بوش على الإرهاب «حيث أطاحت بمنافسيها الإقليميين الأساسيين، الطالبان فى أفغانستان، ونظام صدام حسين فى العراق»، لتتبوأ طهران موقع اللاعب الإقليمى الأهم، ولتحظى بنفوذ فى العراق على سبيل المثال، يفوق وفقا للتقرير النفوذ الأمريكى المدعوم بقوة احتلال عسكرى تقرب من مائتى ألف جندى. وشبه كاتبى التقرير السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط بمن يلعب البوكر، فى حين تلعب إيران الشطرنج. غير أن لاعب البوكر بوش قد ذهب، وجاء أوباما، وهو أيضا لاعب شطرنج، كما وصفه هنرى كيسنجر مؤخرا فى حوار صحفى مع در شبيجل الألمانية. فهل مازالت إيران بدورها تلعب الشطرنج، أم أن تبادلا ما للأدوار قد حدث وانزلقت طهران إلى لعب البوكر؟ وبالأخص، إلى مدى تعى طهران أن تحولا ليس بسيطا قد جرى على قواعد اللعبة فى المنطقة، يقتضى بالتالى نوعا مختلفا من الاستجابة؟ ذكرنا الوزير بتقرير تشاتام هاوس، وكما توقعنا، كان على دراية تامة به، ولجئنا إلى استعارة الشطرنج لنسأله رأيه فيما يمكن أن نطلق عليه «افتتاح أوباما». متقى: أشكر جريدة «الشروق» على اهتمامها، وأود بداية أن أعبر عن سعادتى بإجراء حوار مع صحيفة ينتمى إليها أصحاب الفكر وكبار الكتاب المصريين والعرب، وأرجو أن تنقلوا لهم خالص تحياتى. كما أود أيضا أن أتوجه باسم الشعب الإيرانى والجمهورية الإيرانية بخالص العزاء للشعب المصرى وأن أعلن عن أسفنا البالغ وتضامننا معكم لاستشهاد السيدة مروة الشربينى. وبالنسبة لسؤالكم: لا شك أن القوى الكبرى، وكذا القوى السلطوية عندما ترتكب أخطاء فلا شك فى أن آخرين سيستفيدون من تلك الأخطاء، ولذلك من الأفضل لتلك القوى المهيمنة أن تعمل على تفادى ارتكاب أخطاء من هذا النوع حتى لايستفيد الآخرون منها. فلنأخذ أفغانستان على سبيل المثال. برر السيد بوش وجوده العسكرى هناك استنادا إلى ثلاث ذرائع: إعادة الاستقرار إلى البلاد، القضاء على إنتاج المخدرات، مكافحة التطرف والإرهاب. ما هو الواقع اليوم، بعد ثمانى سنوات من الوجود الأمريكى. أفغانستان تعانى حالة من عدم الاستقرار وزعزعة الأمن تشمل أنحاء البلاد وامتدت لتشمل جزءا من باكستان أيضا. إنتاج المخدرات فى أفغانستان عند دخول القوات الأمريكية كان نحو 200 طن فى السنة، وصل اليوم إلى 9000 طن. التطرف ينتشر فى البلاد. إذن سياسة بوش باءت بالفشل. ونفس الموقف فيما يتعلق بالعدوان الأمريكى على العراق، وهو العدوان الذى لم يتمتع بأى غطاء من الشرعية من قِبل الأممالمتحدة. وكذلك الغزو الأمريكى للعراق، كان غزوا فاقدا لأى شرعية دولية، ترتب عليه ضياع مليارات الدولارات وآلاف القتلى، وأنا أتحدث هنا عن القتلى الأمريكيين، لأننا لو تحدثنا عن القتلى بين صفوف الأفغان والعراقيين لربما وصل الرقم إلى مليون شخص. أوباما أمامه هذا الملف، ونقول له: «إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا». عليه أن يسلك طريق الصواب، وبالتأكيد لن يكون مصيره مصير بوش. فى تصريحاته يؤكد أوباما فيها دائما أن سياسته تختلف عن سياسات بوش، ولكننا نحتاج لأن نرى السيناريوهات الفعلية. كل ما يصرح به من كلام صائب، وكل خطوة عملية صادقة من جانب أمريكا ستلقى كل ترحيب من جانبنا. خلال زيارته لجمهورية التشيك تحدث عن نزع السلاح النووى فى العالم، وهو الأمر الذى قوبل بترحيب منا، واليوم خلال كلمتى أمام القمة اقترحت أن تقوم حركة عدم الانحياز بإنشاء لجنة تكون مهمتها العمل من أجل إخلاء العالم من أسلحة الدمار الشامل. وهناك لأوباما مواقف أخرى جديرة بالترحيب، ولكنه يتعرض لضغوط شديدة من أطراف عدة، ومازال عليه أن يبين أنه يمتلك فعلا مقومات القيادة والقدوة. إيران تتحدث منذ فترة عن حزمة من المقترحات والأفكار تنوى طرحها على الغرب وعلى العالم، وذلك فى مقابل حزمة المقترحات التى طرحتها عليها مجموعة الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن. لماذا تأخرت إيران فى الإعلان عن هذه الحزمة من المقترحات، ومتى نتوقع صدورها؟ إذا رأينا استعدادا من جانبهم للتفاعل معها فسنسلمها لهم، حيث يتسنى لنا فى نفس ذلك الإطار أن نحدد جولات من الحوار معهم فيما يتعلق بنزع الأسلحة النووية، والأزمة الاقتصادية العالمية، والأزمات الإقليمية، وتعزيز مكانة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والارتقاء بمستوى التعاون بين الدول من جانب ووكالة الطاقة من جانب آخر، وتلك هى المحاور العامة والرئيسية التى تشملها حزمة المقترحات والأفكار الإيرانية. وإثارة مثل هذه الموضوعات على الصعيد العالمى هو أمر بالغ الأهمية. أما فيما يتعلق بالملف النووى فنحن قلنا للأطراف الغربية إنه لا جدال ولا حوار حول الحق الحتمى لإيران فى الاستخدام السلمى للطاقة النووية، وهذا حقنا القانونى والشرعى. هل يعنى ذلك أن الحوار فيما يتعلق بالملف النووى الإيرانى قد وصل إلى طريق مسدود؟ إدارة أوباما وجهت عددا من الإشارات الإيجابية صوب طهران، وأعلن أوباما أكثر من مرة عن رغبته فى إجراء حوار مباشر مع القيادة الإيرانية، ولكنهم بدأوا يتزمرون من رد الفعل الإيرانى، ومؤخرا قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون: «إننا متمسكون بالحوار مع طهران، ولكننا لن ننتظر إلى الأبد». ونحن كذلك لا يمكننا أن ننتظر إلى الأبد، لنرى تغييرا حقيقيا فى سياساتهم. أما فيما يتعلق بإعادة تفعيل النشاطات السلمية والشرعية للطاقة النووية الإيرانية، فإن إيران ستواصل تعاونها مع وكالة الطاقة الذرية، والكاميرات التابعة للوكالة مازالت موجودة فى منشآتنا النووية، كما أن مفتشى الوكالة يتواجدون طوال الوقت فى تلك المنشآت، ولذا فلا توجد أى مشكلة من جانبنا. وما هى توقعاتكم بشأن ما تثيره إسرائيل بين الحين والآخر من ضجيج حول توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، مع الوضع فى الاعتبار أن إدارة أوباما قد أكدت أكثر من مرة أنها لن تسمح بذلك؟ طبيعة الكيان الصهيونى كما تعرفون، لصيقة بالإرهاب والتهديد. ولكن الظروف الراهنة تختلف عنها فى الماضى. فى زمن ما كان الكيان الصهيونى إذا أراد الهجوم على أى مكان قام بذلك، على سبيل المثال فقد قام بالاعتداء على لبنان ست مرات، وكذلك اعتدى على دول أخرى فى المنطقة. ولكن الظروف اختلفت خلال العامين الأخيرين، وانقلبت الأوضاع رأسا على عقب. فقد فشل الكيان الصهيونى فى العدوان على لبنان فى صيف 2006 فشلا ذريعا، وبعدها فشل فشلا ذريعا آخر فى عدوانه على غزة. لذا أعتقد أن الكيان الصهيونى يعيش هذه الأيام أضعف حالاته، وهو ليس فى موقف يسمح له بالتجرأ بالهجوم على إيران. الصهاينة يعون تماما ما سيحدث لهم إذا ما تجرأوا وفكروا فى الهجوم على إيران «يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدى المؤمنين». شهدت الفترة الماضية مؤشرات متتالية لتقارب كبير فى العلاقات الأمريكية السورية، ويصرح الجانبان بأن مرحلة جديدة فى العلاقات بينهما تبدأ الآن، وهناك حديث عن عملية سلام جارٍ إعدادها بين سوريا وإسرائيل، فكيف تنظر إيران إلى هذه التطورات؟ سوريا دولة مستقلة، وهى تتخذ القرارات التى تتفق مع مصالحها الوطنية، أما الذين يحلمون بتغيير المواقف الثابتة لسوريا فإن هذا حلم لن يتحقق، والذين يحلمون بفصم العلاقات الاستراتيجية بين سوريا وإيران، نقول لهم إنهم واهمون وأن حلمهم هذا لن يتحقق. ولكن السياسة الأمريكية تجمع بين الدعوة للحوار المباشر مع طهران وبين مسعى واضح لعزلها فى المنطقة وللتقليل من قيمة ما تملكه من كروت؟ هناك دائما خطط يسعى الأمريكيون لوضعها موضع التنفيذ. لكن الظروف مختلفة. إذا أردنا أن نرصد المؤامرات التى قامت الإدارات الأمريكية بحياكتها خلال السنوات الثلاثين الماضية ضد الجمهورية الإيرانية فسنجد أن عددها لا يحصى. ولكنها جميعا فشلت. ودعنى أعطِك مثالا: فقبل 35 عاما أجرى استطلاع للرأى حول صورة أمريكا فى المنطقة، وكانت نتيجة الاستطلاع أن أكثر من 80 % من المشاركين فى الاستطلاع وخاصة الشباب كانوا يحملون صورة إيجابية عن أمريكا، ويرون فيها قدوة لهم. وفى العام الماضى أجرى استطلاع مماثل فكشف عن أن ما يقرب من 90 % من المشاركين فى الاستطلاع أظهروا نفورا بل وكراهية لأمريكا. أوباما حظ ونصيب للشعب الأمريكى، ولكن عليه عمل الكثير حتى يتسنى له تصحيح صورة أمريكا المشوهة فى العالم. الولاياتالمتحدة تحتاج إلى إيران أكثر من أى وقت مضى حت تتدارك فشلها، وإذا قام الأمريكيون بإحداث تغيير حقيقى فى سياستهم، فعليا وعمليا، فإننا سنساعدهم. إذا سألت عن أهم ثلاثة أسباب لاستمرار التوتر فى العلاقات المصرية الإيرانية، فماذا يكون ردكم؟ نحن لا نتحدث عن توتر فى العلاقات بين بلدينا، ولكننا نتحدث عن تحسين تلك العلاقات. يمكننى أن أسرد ثلاث مميزات للعلاقات الراهنة بين مصر وإيران، أولاها أن علاقاتنا الاقتصادية عند مستوى جيد جدا، وثانيتها أن لدينا الكثير من المواقف المشتركة أو المتطابقة تجاه القضايا الدولية، وثالثتها أن إيران ومصر ستكونان خلال السنوات الست المقبلة ضمن ترويكا حركة عدم الانحياز، وكل هذه مقومات جيدة لمزيد من التحسن فى العلاقات.