سعر الدولار اليوم الخميس 27 يونيو في البنوك المصرية    الجيش البولندي يعتمد قرارا يمهد "للحرب مع روسيا"    "فنزويلا في الصدارة".. ترتيب المجموعة الثانية ببطولة كوبا أمريكا    تراجع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الخميس 27 يونيو 2024    إبراهيم عيسى: إزاحة تنظيم جماعة الإخوان أمنيًا واجب وطني    اعتقال قائد الجيش البوليفي بعد محاولة انقلاب    انخفاض أسعار النفط بعد زيادة مفاجئة في المخزونات الأمريكية    بحار أسطوري ونجم "قراصنة الكاريبي"، سمكة قرش تقتل راكب أمواج محترفا في هوليوود (صور)    هل يجوز الاستدانة من أجل الترف؟ أمين الفتوى يجيب    حبس عامل قتل آخر في مصنع بالقطامية    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    والدة لاعب حرس الحدود تتصدر التريند.. ماذا فعلت في أرض الملعب؟    إصابة فلسطينيين اثنين برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحام مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم    غارة إسرائيلية تستهدف مبنى شمال مدينة النبطية في عمق الجنوب اللبناني    إعلان نتيجة الدبلومات الفنية الشهر المقبل.. الامتحانات تنتهي 28 يونيو    مسرحية «ملك والشاطر» تتصدر تريند موقع «إكس»    هانئ مباشر يكتب: تصحيح المسار    دعاء الاستيقاظ من النوم فجأة.. كنز نبوي منقول عن الرسول احرص عليه    7 معلومات عن أولى صفقات الأهلي الجديدة.. من هو يوسف أيمن؟    تسجيل 48 إصابة بحمى النيل في دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال 12 ساعة    كندا تحارب السيارات الصينية    فولكس ڤاجن تطلق Golf GTI المحدثة    فى واقعة أغرب من الخيال .. حلم الابنة قاد رجال المباحث إلى جثة الأب المقتول    ما تأثيرات أزمة الغاز على أسهم الأسمدة والبتروكيماويات؟ خبير اقتصادي يجيب    حظك اليوم| برج الأسد 27 يونيو.. «جاذبيتك تتألق بشكل مشرق»    حظك اليوم| برج الجدي الخميس27 يونيو.. «وقت مناسب للمشاريع الطويلة»    جيهان خليل تعلن عن موعد عرض مسلسل "حرب نفسية"    حظك اليوم| برج العذراء الخميس 27 يونيو.. «يوما ممتازا للكتابة والتفاعلات الإجتماعية»    17 شرطا للحصول على شقق الإسكان التعاوني الجديدة في السويس.. اعرفها    إصابة محمد شبانة بوعكة صحية حادة على الهواء    سموحة يهنئ حرس الحدود بالصعود للدوري الممتاز    حقوقيون: حملة «حياة كريمة» لترشيد استهلاك الكهرباء تتكامل مع خطط الحكومة    مجموعة من الطُرق يمكن استخدامها ل خفض حرارة جسم المريض    إبراهيم عيسى: أزمة الكهرباء يترتب عليها إغلاق المصانع وتعطل الأعمال وتوقف التصدير    سيدة تقتحم صلاة جنازة بالفيوم وتمنع دفن الجثمان لهذا السبب (فيديو)    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    محاكمة مصرفيين في موناكو بسبب التغافل عن معاملات مالية كبرى    منير فخري: البرادعي طالب بالإفراج عن الكتاتني مقابل تخفيض عدد المتظاهرين    "الوطنية للإعلام" تعلن ترشيد استهلاك الكهرباء في كافة منشآتها    العمر المناسب لتلقي تطعيم التهاب الكبدي أ    نوفو نورديسك تتحمل خسارة بقيمة 820 مليون دولار بسبب فشل دواء القلب    ميدو: الزمالك «بعبع» ويعرف يكسب ب«نص رجل»    خالد الغندور: «مانشيت» مجلة الأهلي يزيد التعصب بين جماهير الكرة    ملخص وأهداف مباراة جورجيا ضد البرتغال 2-0 فى يورو 2024    الدفاع السورية: استشهاد شخصين وإصابة آخرين جراء قصف إسرائيلى للجولان    إجراء جديد من جيش الاحتلال يزيد التوتر مع لبنان    وزراء سابقون وشخصيات عامة في عزاء رجل الأعمال عنان الجلالي - صور    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    مدير مكتبة الإسكندرية: استقبلنا 1500 طالب بالثانوية العامة للمذاكرة بالمجان    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفد الشعبة العامة للأدوية باتحاد الغرف التجارية    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    عباس شراقي: المسئولون بإثيوبيا أكدوا أن ملء سد النهضة أصبح خارج المفاوضات    رئيس قضايا الدولة يُكرم أعضاء الهيئة الذين اكتمل عطاؤهم    حدث بالفن | ورطة شيرين وأزمة "شنطة" هاجر أحمد وموقف محرج لفنانة شهيرة    يورو 2024، تركيا تفوز على التشيك 2-1 وتصعد لدور ال16    تعرف على سبب توقف عرض "الحلم حلاوة" على مسرح متروبول    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهروب من الفقر إلى جحيم الصحراء الليبية
نشر في الشروق الجديد يوم 14 - 11 - 2013

لم ينتظر محمد مصطفى شعيب، من محافظة المنيا قضاء إجازة عيد الأضحى مع أهله، بل سافر «هَرابى» كما يقولون، ومات فى الصحراء الليبية، دون شنطة سفر. لكن مصرع واحد أو اثنين أو أكثر لا يوقف تيار الهجرة غير الشرعية. البعض يدفع حياته ثمنا لحلم العمل، وآخرون يواصلون الزحف فى بحر الرمال.
صدام أبوزيد، 32 عاما، أحد شباب نجع عربان الشيخ مسعود التابع لمركز العدوة بشمال المنيا. قضى ستة أيام وصفها بأنها الأصعب فى حياته. كان ذلك فى مطلع فبراير 2009 عندما قرر الهجرة هربا إلى الجماهيرية الليبية، عبر حدودها الشرقية مع مصر.
لم يكن قد سبق له السفر إلى الخارج، لكن أصدقاءه فى النجع اعتادوا الذهاب بشكل دائم إلى ليبيا للعمل، وأكدوا له أن الحياة هناك لا تختلف كثيرا عن الحياة فى الريف المصرى. فرق العملة بين الجنيه المصرى والدينار الليبى يساعد على تحقيق هامش ربح لا بأس به يصل أحيانا إلى 100 ألف جنيه فى العام الواحد، خصوصا فى ظل انخفاض تكاليف الأكل والسكن داخل الأراضى الليبية.
الظروف الصعبة التى مرت بها أسرة صدام خلال تلك الفترة أجبرته على التفكير فى السفر، ولأنه متهرب من التجنيد كان من المستحيل أن يحصل على تأشيرة دخول رسمية للأراضى الليبية. كما أن الهجرة «هربا» وقتها كانت أقل تكلفة بكثير من الطرق الرسمية، لذا سافر هربا مرتين: الأولى عام 2009 بمبلغ 500 جنيه، والثانية عام 2010 مقابل 750 جنيها، فى حين كان السفر الرسمى يتكلف ما بين 2500 و3000 جنيه.
الوصول إلى أحد سماسرة السفر لم يكن صعبا، على الرغم من أنه يسكن نجعا صغيرا تابعا لقرية، فالمنطقة المحيطة مليئة بهؤلاء السماسرة الذين يسهلون الهجرة غير الشرعية، من خلال علاقاتهم بقبيلة «أولاد على» التى تعتبر كلمة السر فى قضية تسفير الشباب المصرى هربا إلى الأراضى الليبية، فأفراد القبيلة يقيمون بين مرسى مطروح والسلوم. شرح السمسار لصدام وابن عمه طريقة السفر، موضحا أنه سيتم نقلهم بسيارة من منزليهما إلى منطقة الحدود، وبعدها يسيران على الأقدام لمدة تتراوح بين ساعة ونصف الساعة وساعتين على أقصى تقدير، بعدها يكونان داخل الأراضى الليبية. يقول صدام: «طلب منا السمسار تجهيز نفسنا للسفر خلال أسبوع، وحدد أنه لن يتحمل أية أعباء متعلقة بالهرب من التجنيد أو كوننا متهمين وصادر ضدنا أحكام فى أية قضايا جنائية أو جنح، وأبلغنا بأن السفر سيتكلف 500 جنيه مصرى للفرد الواحد تُحصل قبل الخروج من البيت».
لحظة الانطلاق
فى الموعد المحدد كان عددهم أربعة شباب من القرية نفسها، ينتظرون سيارة «ميكروباص» على الطريق الصحراوى الغربى الذى يبعد عن بلدتهم نحو 15 كم، ليتوجهوا إلى ميناء السلوم البرى.
يكمل صدام رواية رحلته: «تحركت بنا السيارة عصر الثلاثاء 10 فبراير 2009، وأبلغنا السائق بأنه سيتركنا فى منطقة النجيلة، التابعة لمحافظة مرسى مطروح، وهناك يسلمنا لشخص من قبيلة أولاد على».
الرحلة إلى النجيلة استغرقت عشر ساعات، عبر الطريق الصحراوى الغربى حتى مدينة 6 أكتوبر ومنها إلى طريق مصر الإسكندرية الصحراوى، دون التوقف فى أكمنة مرورية أو نقاط تفتيش، على حد قول صدام. فور الوصول فى ساعة متأخرة من الليل أخذهم أحد أفراد قبيلة «أولاد على» إلى منزل مجاور وأبلغهم أن التحرك باتجاه الحدود سيكون فى الساعة الرابعة عصر اليوم التالى. وسلم ذلك الشخص كلا منهم حذاء بلاستيكيا سميكا أبيض اللون وخفيف الوزن، ليساعدهم على السير على الأقدام لمسافات طويلة فى الصحراء، كما أعطى لكل فرد زجاجتى مياه و2 باكو بسكويت.
عبور الحدود
الانتقال من النجيلة بمطروح إلى الحدود مع ليبيا تم على مرحلتين: الأولى بدأت بقدوم سيارة «تويوتا» لنقل البضائع، «طلب منا الرجل البدوى الذى استقبلنا، ويدعى صابر، النوم فى الجزء الخلفى من السيارة وعدم الوقوف نهائيا حتى لا ترانا دوريات الأمن التى تسير على الطريق. ثم تحركت بنا السيارة لمدة 40 دقيقة وصلنا بعدها إلى منطقة سيدى برانى».
التعليق الوحيد على جميع أسئلتهم خلال الطريق كان يأتى فى جملة: «ستصلون الأراضى الليبية بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر من وصولنا إلى منطقة الحدود»، وكانوا كالسلعة التى تُباع وتُشترى من شخص لآخر دون تفاصيل. «بوصولنا إلى سيدى برانى بدأت المرحلة الثانية من الرحلة، حيث كان هناك سيارة أخرى أكبر فى انتظارنا، وكان الجزء الخلفى منها مغطى بخيمة مُحكمة»، هكذا تابع صدام روايته، مضيفا أن سائق السيارة الجديدة فتح لهم الخيمة وطلب منهم الصعود إليها، وهنا فوجئوا بأن السيارة تُقل عددا كبيرا من الأشخاص بينهم شباب وعجائز، نحو عشرين شخصا يجلسون فى وضع القرفصاء لصعوبة الحركة وضيق المكان.
تحركت السيارة من منطقة سيدى برانى، ولم تتوقف لمدة ساعة كاملة وصلوا بعدها إلى منطقة تسمى «محطة الكهرباء»، تبعد عن معبر الجمرك بالسلوم نحو 2 كم.
«بعدها سلمنا سائق السيارة إلى شخصين (دليل صحرا)، أبلغونا بأننا سنبدأ السير على الأقدام حتى عبور الحدود الليبية، وهناك ستكون سيارة أخرى فى انتظارنا تُقلنا إلى منطقة (مساعد) شرق ليبيا. وتحركنا بموازاة منطقة الجمارك. وفى الوقت الذى كان أحد الدليلين يسير أمامنا مباشرة، كان الآخر يجرى ليسبقنا بمسافة 50 مترا، ويعطى إشارات ضوئية من مصباح كان بحوزته لزميله ليفهم أن الطريق آمن».
بعد حوالى 2 كم، جلسنا للراحة فى الظلام، تحت الأمطار الغزيرة، وفوجئنا فى هذه الأثناء بقدوم ثلاث مجموعات أخرى من المهاجرين تضم قرابة 80 شخصا وبصحبتهم أربعة «مرشدين». «مع زيادة العدد الذى تجاوز المائة شخص، أدركت أن الرحلة لن تكتمل لصعوبة تهريب كل هؤلاء. لكن تابعنا السير فى الصحراء باتجاه الأسلاك الحدودية وقابلتنا هضبة كبيرة يتجاوز ارتفاعها 1.5 كم، وطلب منا المرشدون تسلقها، قائلين: من يشعر بعدم استطاعته صعود تلك الهضبة من الأفضل أن يعود إلى بيته».
برودة الجو خففت الإحساس بالعطش، لكنهم لم يقطعوا سوى ثلث المسافة كما فهموا من كلام الدليل. وقتها قرر صدام تنظيم عملية شرب المياه بينه وبين زملائه الثلاثة: كل واحد يتناول غطاء زجاجة كل ثلث ساعة، فلم يكن متبقيا معهم سوى زجاجة مياه واحدة.
لمحنا خياما مضاءة على مسافة قريبة، وهنا طلب منا المرشدون السكوت التام، قائلين إن هذه الخيام خاصة بكتيبة عسكرية تتبع الجيش الثانى الميدانى، وأجبرونا على العودة من حيث أتينا، وتركنا ثلاثة أشخاصا من المجموعة فى الصحراء، الله يعلم مصيرهم.
طريق مرصوف، إلى جوار قضبان حديدية خاصة بالقطار الحربى. هنا طلب المرشدون الجرى والابتعاد عن الطريق بمسافة كيلومتر خلال 5 دقائق تفاديا للدوريات الحدودية.
«قام أحد المرشدين بقص السلك الشائك على الحدود بسهولة بالغة، عبارة عن 8 خطوط رأسية مشدودة على أعمدة حديدية يبلغ ارتفاعها عن الأرض نحو 2 متر».
منطقة ألغام
عقب عملية قص السلك، طلب المرشدون من المجموعة الوقوف صفا واحدا والسير بشكل دقيق ومنتظم على أن يضع كلٌ منا قدمه مكان قدم الشخص الذى يسبقه فى الصف، حتى تسير المجموعة كلها وكأنها شخص واحد. «حذرونا أنه فى حال شعور أى فرد بانخفاض مستوى الأرض تحت قدمه عليه الوقوف فورا، دون حركة، لأننا على وشك الدخول فى منطقة ألغام يبلغ عرضها 50 مترا. المرشد الذى يتقدم الصف كان يغرس مطواة فى الرمال، لاستكشاف وجود لغم، إذا ما اصطدم بسن السكين».
الطريق. الذى سلكته المجموعة وسط منطقة الألغام، ممهد ويبلغ عرضه 30 سم، أعده المرشدون مسبقا، لكنهم يعيدون اختباره خوفا من أن تكون السلطات الليبية قد زرعت لهم ألغاما فيه.
قرب شروق الشمس رأت المجموعة سيارة ليبية تقف خلف السلك، ظنوا أنها السيارة المتفق عليها سلفا لنقلهم داخل الأراضى الليبية، إلا أنهم فوجئوا بأنها سيارة شرطة ليبية. هرولنا جميعا، فيما ارتفع صوت الشرطى: «اثبت مكانك»، هكذا فهم صدام أن النهاية قد قاربت. لكن المجموعة التقت مجددا بالمرشدين، بعد حوالى نصف ساعة من الهرب، فى منطقة بها حشائش جافة. فى تلك اللحظة أبلغنا المرشدون الأربعة أنهم سيذهبون لاستطلاع الطريق على أن يعودوا إلينا مرة أخرى، وذهبوا دون رجعة.
حاول صدام وثلاثة من زملائه السير باتجاه الجمرك ومحاولة التسلل إلى الأراضى الليبية من منطقة بعيدة عن الشرطة، إلا أنهم شعروا بعد فترة أن الأضواء تبتعد أكثر فأكثر.
ويستطرد صدام قائلا: «مشيت حتى لم أعد قادرا على الاستمرار، وحاليا كلما تذكرت ما فعلته أتساءل: ما هذا الجنون؟ ومع ذلك كررت تجربة السفر هربا مرة أخرى. ساروا حتى غلبهم النعاس، فى ظل برودة الجو وشدة المطر، ونفاد ما كان معهم من طعام وماء، كما هلكت الأحذية البلاستيكية التى كانوا قد تسلموها فى بداية الرحلة. «استيقظنا فى الصباح على صوت قوة أخرى من الشرطة الليبية، طلب منها قائدها التحرك ببطء لأننا لا نزال فى منطقة ألغام، بل وأشار إلى رأس لغم بالقرب منى».
بعد أن أخرجتهم الشرطة من منطقة الألغام بالطريقة نفسها التى اتبعها المهربون، تم نقلهم إلى منطقة تابعة للسلطات حيث وزعوا عليهم سجائر ومياه معدنية، وبدأوا فى استجوابهم، ثم ترحيلهم إلى منطقة «مساعد» الليبية لإيداعهم بسجن «مساعد العمومى».. قضينا هناك يوما كاملا، وفى اليوم التالى تم تسليمنا للسلطات المصرية بميناء السلوم البرى، لاتخاذ اللازم من الإجراءات.
العودة والهروب الثانى
حوالى 120 فردا تم ترحيلهم والتحرى عنهم من قبل مكتب أمن الدولة الموجود بالجمرك، واستغرق الأمر ليلة كاملة. خلال بقائنا فى ساحة الجمرك أتى بعض أهالى السلوم وعرضوا علينا تبديل العملة الليبية بأخرى مصرية. وكنا قد اشترينا الدينار الليبى قبل سفرنا ب 4.75 جنيه واشتراه منا هؤلاء الأشخاص ب 4.25.
من الجمرك إلى مديرية أمن مطروح، حيث أحضر لنا أحد المجندين طعاما ومياها وأبلغنا أنه اشتراه ب50 جنيها جمعها من بعضنا.. أفرج عنهم، وانصرف كل إلى منزله.
«حسيت إنى اتضحك علىّ، فقررت الهجرة هربا مرة تانية فى فبراير 2010، بعد أن تلقيت عرضا جادا من أحد السماسرة أعرفه معرفة شخصية بالسفر معه من المنزل وحتى مكان العمل بليبيا مقابل 750 جنيها»، هكذا برر صدام محاولته الثانية. وأضاف صدام أنهم فى هذه المرة كانوا أربعة أفراد بصحبة السمسار، اتخذوا الطريق نفسه، مع الفارق أن الفشل جاء مبكرا فور الوصول لمنطقة السير على الأقدام من ميناء السلوم البرى إلى الأسلاك الشائكة. «لم نحتج إلى قص السلك، فبعد عبورنا لمنطقة الألغام بحذر فوجئنا بسيارة شرطة ليبية فى انتظارنا خلف الأسلاك الليبية. طمأننا السمسار بأن سيارة الشرطة ستنقلنا إلى منطقة مساعد الليبية مقابل عمولة مالية، ومنها إلى مدينة «طبرق» ثم «إجدابيا» بسيارات شرطة أيضا، ومنها إلى مقر المزرعة التى عملت بها لمدة عامين بمنطقة شلوج التابعة ل«بنى غازى».
كسب صدام فى أول ثلاثة شهور 15 ألف جنيه، ولم يكن ينوى العودة إلى مصر إلا أن أحداث العنف والتدمير التى صاحبت اندلاع الثورة الليبية أجبرته على الرجوع.
سمسار تهريب: أربح من الرحلة الواحدة 20 ألف جنيه.. والشباب الحالم بجنة ليبيا ثلاثة أصناف
سماسرة الهجرة غير الشرعية إلى ليبيا لا يصعب العثور عليهم بمحافظة المنيا، يكفيك أن تنزل إلى أى من قرى المحافظة التى تضم 8 مدن، وتطرح سؤال: «عايز حد بيسفر ليبيا هرابى؟» على شباب القرية، فتجد ألف من يدلك وكأنه يخبرك عن مكان «سوبر ماركت» أو طبيب عام.
التقينا أحد هؤلاء فى قرية تابعة لمركز «مغاغة»، وهو يمتلك سيارة ميكروباص يستخدمها فى تهجير الشباب الذين لا يخرجون عن ثلاثة أصناف، فى مقدمتهم الهاربون من التجنيد أو الشباب صغير السن الذى يسعى لإيجاد فرصة عمل قبل دخول الجيش، أما النوع الثانى فيتمثل فى أولئك الذين صدرت ضدهم أحكام قضائية وأدرجت أسماؤهم على قوائم الممنوعين من السفر فى المطارات والموانئ البحرية، هذا إلى جانب الشباب المصاب بفيروس (c). ويلفت إلى أن السلطات الليبية لم تكن تمانع فى دخول المصابين بمرض التهاب الكبد الوبائى قبل الثورة، فى حين اشترطت مؤخرا إجراء تحاليل طبية للوافدين المصريين، عند مداخل المدن الحدودية للتأكد من عدم إصابتهم بهذا المرض.
وأضاف السمسار الذى رفض نشر اسمه أن غلق الحدود من قبل السلطات الليبية مؤخرا، هو السبب الرئيسى وراء تنامى هروب الشباب المصرى إلى هناك سيرا على الأقدام فى الصحراء لفترات طويلة واتخاذ ما سماه ب«الطريق القبلى»، مشيرا إلى أن الدخول إلى الأراضى الليبية بطريقة غير شرعية لم يكن مقتصرا على ذلك الطريق عندما كانت المعابر مفتوحة. ويوضح: «أبناء قبيلة (أولاد على) يدفعون عمولات للموظفين فى المعابر، حتى يمر الشباب الهارب بطريقة طبيعية، ثم يتولى مرشدون ليبيون توصيلهم إلى منطقة عملهم داخل الأراضى الليبية، بموجب تنسيق مسبق مع السماسرة المصريين. وذلك مقابل مبلغ مالى أكبر من تكلفة التسلل عبر الحدود».
السمسار يعمل فى هذا المجال منذ عام 2006، ولا تقتصر مهمته على تسهيل السفر بطريقة غير شرعية، لكن أيضا يتولى دخول آخرين بشكل رسمى بعد حصولهم على تأشيرات، شريطة أن يكون موقف الشاب سليما من ناحية التجنيد والحالة الجنائية والصحية، ومن ثم يكون من السهل دخوله إلى ليبيا والعمل بها. ويتكلف ذلك 5500 جنيه، فى مقابل ثلاثة آلاف للهجرة غير الشرعية. ويشير إلى أن رحلات الهجرة غير الشرعية أكثر ربحا: «الرحلة غير الشرعية الواحدة لا أخرج فيها بأقل من 20 مهاجرا، وبالتالى تصل عمولتى فى المجموعة الواحدة إلى عشرين ألف جنيه. وفى أغلب الأحيان يتم تحصيل المبلغ قبل الرحلة بأيام أو بساعات، ويطلب البعض سداد جزء من المبلغ مقدما، على أن يسدد الباقى بعد وصوله لمنطقة عمله أو يتولى أهله فى مصر تسديد المطلوب، بعد التأكد من سلامة وصوله».
السمسار لا يواجه عناء كبيرا خلال أداء مهمته، إذ يقوم بتسليم المهاجرين إلى سمسار آخر من أبناء قبيلة «أولاد على» فى «رست» مشهور يقع على طريق السلوم، ويدفع له مبلغ 2000 جنيه عن كل فرد، يتقاسمها السمسار الجديد مع المرشدين وآخرين داخل الأراضى الليبية.
وتابع حديثه قائلا: «أولاد على» حافظين الصحراء عن غيب، وهناك فرع من قبيلتهم بمدينة (مساعد) الليبية التى تقع بعد مدينة السلوم المصرية مباشرة، وهم يتولون مسئولية التحرك بالشباب المهاجر داخل الأراضى الليبية.
ولفت السمسار النظر إلى أن مسئولية السمسار المصرى تنتهى عند دخول الشاب المصرى المهاجر هربا إلى الأراضى الليبية فقط، موضحا أنه غير مسئول عن إيجاد فرص عمل. لكن 99 % من الشباب المهاجر بطريقة غير شرعية يكون على اتصال مسبق مع أحد أقربائه فى الداخل لترتيب أموره بمجرد الوصول، على حد قوله. «بمجرد أن يشتغلوا، تقل احتمالات اكتشاف أمرهم أو ترحيلهم، فنادرا ما تقوم الشرطة الليبية بمراجعة موقف العاملين فى المزارع التى تقع فى المناطق الصحراوية النائية»، فهذه تكون بعيدة كل البعد عن أقسام ودوريات الشرطة.
أسرة تكتشف مصرع ابنها من التليفزيون
مع عصر كل يوم، يتجه شباب ورجال قرية داقوف، غرب مركز سمالوط بالمنيا، إلى جسر القرية لانتظار أصحاب الأراضى الزراعية الذين يرغبون فى تأجير «أنفار» للعمل، مقابل 35 جنيها يوميا. العمل بالزراعة هو مصدر الدخل الوحيد تقريبا بالنسبة لفقراء القرية، رغم أنه موسمى ومرتبط بجنى المحاصيل، وأن مساحة الأراضى الزراعية لا تكفى أعداد الراغبين فى العمل، إذ يتجاوز تعداد سكان القرية 20 ألف نسمة.
القرية كبيرة بالفعل، لكنها ظلمت لوقوعها بعد قرية إسطال، مسقط رأس المشير عبدالحكيم عامر، ومحل إقامة أسرته ذات النفوذ الواسع، مما جعل هذه القرية الأخيرة تتميز عن جارتها داقوف بارتفاع نسبة التعليم الجامعى لاحتوائها على المدرسة الثانوية الوحيدة. حظيت أيضا إسطال بالكثير من الخدمات الحكومية لوجود مجلس محلى بها، بينما عانت داقوف من ارتفاع نسبة الجهل ونقص الخدمات وندرة موارد الرزق. لذا يفكر دوما شباب داقوف فى الهرب بأى وسيلة شرعية كانت أو غير شرعية، ويلقى أبناء القرية مصرعهم عطشا فى الصحراء الليبية، كما حدث مؤخرا.
تحكى انشراح عكوش (60 سنة)، والدة محمد مصطفى شعيب، أحد ضحايا عمليات الهجرة غير الشرعية إلى ليبيا، والذى لقى مصرعه: «جريت وراه لأقوله ما تسافرش..كنت حاسة إنه مش هيرجع». بصوت مبحوح يكاد أن يسمع، حدثتنا والدة محمد وعينها تدمع: «والله العظيم جريت وراه، وهو معاه شنطته: يا محمد أنا مش مرتاحة، ما تسافرش يا بنى»، لكنه سارع فى مشيته متجها نحو السائق، وقال: «اطلع بسرعة أمى جاية».
الأم رزقت بمحمد وإخوته بعد 20 سنة من عدم الإنجاب، جاءها ثلاثة أولاد وثلاث بنات، إلا أن شقيقى محمد الأولاد يعانون أمراضا نفسية، لذا تولى الزراعة والسفر إلى القاهرة منذ صغره لمساعدة عائلته. ثم حاول الذهاب إلى الأردن أو السعودية للعمل، لكنه لم ينجح لتعديه السن المناسبة.
استطردت الأم: محمد سافر (هرابى) عن طريق سمسار أقنعه بالفكرة.
لم أكن أعرف بخبر وفاته إلا عندما سمعت صراخ أهل البلد من الشباك، سألت فقالوا لى جنازة ابنك محمد وصلت من ليبيا. باقى العيلة كانوا عارفين من قبلها بأيام لكن لم يبلغونى.
الخال الخمسينى علم بالخبر مصادفة من «قناة الجزيرة»، إذ شاهد صورة عُرضت للجثة، فى أثناء بث تقرير عن وفاة المصريين فى صحارى ليبيا. حينها اتصل ببعض أبناء القرية فى منطقة طبرق حيث لقى محمد مصرعه، لاتخاذ اللازم وتسلم الجثمان. تابع الخال عكوش: إجراءات تسليم الجثة واجهت صعوبات كثيرة فى الجمارك المصرية وبدأ يظهر التورم والتعفن على الجثة، وأصروا على تصويرها للقنوات الفضائية، وعندما رفض المرافقون ذلك قاموا باحتجازهم يوما كاملا بسجن تابع للجمرك، لولا اتصالنا بأحد المسئولين. فور وصول جثمان محمد إلى القرية، تم إغلاق المحال ولم تعرف والدته بنبأ وفاته إلا وقت صلاة الجنازة عليه بالمسجد.
كان محمد قد سافر إلى ليبيا، ثانى أيام عيد الأضحى، أقنعه سمسار سفر من بلدة مجاورة تسمى «طرفة» بدفع مبلغ 5500 جنيه، بعد اقتراضها من أصدقاء. وأثناء عبور مجموعة من ستين مهاجرا غير شرعى للحدود وضعهم الدليل الليبى فى غرفة بمدينة «طبرق»، وغاب عنهم لمدة أربعة أيام متواصلة، دون طعام أو شراب. قام المحتجزون بكسر باب الغرفة، وخرجوا بحثا عن أى أكل أو مياه فى الصحراء، فتفرقوا عن بعضهم، وبالفعل نجا البعض منهم ووصل إلى مناطق سكنية فى طبرق منهكا، لكن محمد وصاحبه بدر فزاع ماتا فى الصحراء من الجوع والعطش.
يشير الخال إلى أن محمد سبق له السفر إلى ليبيا بصورة شرعية، عندما كانت الحدود بين البلدين مفتوحة، لكن هذه المرة لجأ إلى السفر «الهرابى» بعد إغلاق المنافذ.
.بطالة.. فقر.. وقف حال.. دولة لا تفى باحتياجات المواطن.. تعددت الأسباب والموت واحد. لكن أهالى محمد وباقى سكان القرية ينتظرون القصاص والتحقيق فى الواقعة سواء من الجانب المصرى أو الليبى.
الصعيد على رأس قائمة السفر
تكثر رحلات الهجرة غير الشرعية فى محافظات الصعيد بشكل عام، ومحافظتى المنيا والفيوم بشكل خاص، وذلك لأسباب اقتصادية بحتة، فى مقدمتها ارتفاع معدل البطالة التى تصل إلى 1.4 % فى الفيوم و3.1 % فى المنيا (بين الشباب أكثر من 15 سنة، وفقا لإحصائيات 2008)، إلى جانب عدم وجود موارد أخرى تدر على الأفراد دخلا يوميا أو شهريا، سواء من ممتلكات عقارية أو صناعية أو زراعية، خاصة فى ظل ندرة المشروعات الصناعية الكبرى التى تستوعب أعدادا كبيرة من العمال. هذا ما أكده الدكتور جمال الطحاوى، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنيا، فقسم الاجتماع يعكف حاليا على تحضير دراسة مفصلة عن الهجرة غير الشرعية، لكنها ليست جاهزة للنشر بعد.
وتابع الدكتور الطحاوى أن الشباب يلجأون للهجرة غير الشرعية بحثا عن الرزق، ويسعى الكثيرون إلى التسلل إلى دول أوروبية مثل إيطاليا واليونان، عبر ليبيا أو البحر المتوسط عامة. وعربيا تتبوأ ليبيا الصدارة بالنسبة للهجرة غير الشرعية، لأسباب عدة من بينها القرب الجغرافى من الحدود المصرية بريا أو بحريا، هذا إلى جانب توافر فرص العمل بها نظرا لأنها دولة نفطية ذات كثافة سكانية منخفضة، وبالتالى تعتمد على العمالة الوافدة. كما أن التطابق فى اللغة والعادات والتقاليد إلى حد كبير، لا يشعر المهاجر المصرى بالغربة، بحسب أستاذ الاجتماع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.