كغيرى، لا أعرف ماذا سيحدث غدا، أو بالأحرى إلى أين ستصل الأمور غدا. ولكنى، كغيرى أعرف أن هناك قاعة محاكمة، وأرواب سوداء، وصحيفة إدعاء.. وقفص. لكم تتسارع بنا الأحداث.. والمشاهد. بعد ثلاثين عام لرئيس واحد، حاكمنا رئيسين فى ثلاثة أعوام. كسابقتها، ستزدحم القاعة بالكاميرات، وتزدحم الصحف بالصور. وتنته الجلسة. وكسابقتها، وتحت وهج الأضواء وصخب العامة، ستشكو العدالة من ترقب الخصوم، ومن الأحكام التى تسبق المداولة. وبعد أيام أو شهور لا أحد يعلم. ستحلق على رءوسنا الطير، وتتوقف قلوبنا عن الخفقان، فى انتظار ما سينطق به القاضى. حكما، يصيح بعدها بالقولة المعهودة «رُفعت الجلسة». والثابت أنه رغم الحكم «أيا ما كان»، ورغم «رُفعت الجلسة»، فإن السؤال سيظل قائما: حاكمنا الرئيس، أو للدقة رئيسين.. فهل تغير النظام.
أدمنا اختزال السياسة فى الأشخاص؛ هتافات ومواقف وشعارات، بل وأحيانا «بذاءات» على الجدران.. وظننا خطأ أن تغيير الأشخاص، أو حتى محاكمتهم تعنى تغيير الأنظمة «إلى ما نريد».. ولم يكن ذلك أبدا صحيحا. أُعدم صدام حسين بعد محاكمة لم يعترف بقاضيها، وأُعدم معمر القذافى وسط الهتاف والتكبير دون محاكمة ودون قاضٍ. كان المشهدان اللذان صُورا بكاميرات الهاتف النقال كافيين ليتأكد الجميع، مما اعتقدوا لعقود أنه مستحيل. ولكنهما لم يكونا كافيين أبدا لإنجاز «تحول ديموقراطى حقيقى» وبناء دولة عصرية تستحقها هذه الشعوب. فمازال العراق بعد عشر سنوات يبحث عن طريق للخروج من نفق يحاول الليبيون ألا يدخلوا فيه. نزاعات مسلحة، وتفجيرات، ومخاطر انقسام. نخطئ جميعا «الخطأ القاتل»، حين نظن أن «إخراج» الرئيس، أو محاكمته.. أو حتى إعدامه. «يكفى وحده» لتحول ديموقراطى سليم أو صحيح. لا أحد يجادل فى أهمية المساءلة، أو المحاسبة. فلا عدل بلا قصاص. ولكننا نخطئ لو اعتقدنا أن الله بهذا «وحده» قد كفى المؤمنين القتال.
أكتب هذا المقال فى طريقى إلى وارسو، صاحبة التجربة المتميزة فى التحول الديموقراطى بعد سقوط الاتحاد السوفييتى 1989 والتى كان التزامها بالمعايير المتعارف عليها للعدالة الانتقالية Transitional Justice خارطة طريق صعبة «وطويلة»، ولكن حقيقية للانتقال بمواطنيها إلى دولة معاصرة ديموقراطية حديثة. تلك المعايير الذى ربما كان علينا أن نعترف أولا وبعد ما يقرب من سنوات ثلاث من الارتباك والتخبط «والحركة فى المكان» أنها كانت ضرورية وحتمية، كما هى دائما ضرورية وحتمية لإنجاح المراحل الانتقالية. كما أن علينا أن نلحظ ثانيا، بأن المفهوم؛ «العدالة الانتقالية»، رغم استقراره بالتجربة فى العلوم السياسية الحديثة قد جرى تشويهه لدينا، بحسن نية أحيانا، وربما بسوء نية أحيانا أخرى، بقصد استخدامه فى دفع الأمور إلى اتجاهات معينة، انتقاما أو تمييزا، أو محاولة لطمس ما جرى ونسيانه، مما لن يحول للأسف دون تكراره وإن اختلفت اللافتات أو الشعارات أو أصحاب المصلحة. فكان، كما أشرنا من قبل، أن غاب المفهوم، كما غاب معناه ومقتضياته، عمن أوكلت إليه إدارة البلاد، سواء بقرار من رئيس الجمهورية تلاه رجل مخابراته (11 فبراير 2011) أو بقرار من ناخبين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع بعد سبعة عشر شهرا كاملة مستنزفين ومرهقين «ومضطرين» للاقتراع استبعادا لمن لا يريدون، وليس رغبة فيمن حقا يريدون (يونيو 2012)، ونتمنى أن لا يغيب ثالثة عن اهتمامات مرحلة جديدة نحاول فيها «بصعوبة» أن نمضى قدما نحو ما كان الناس قد خرجوا فعلا يطالبون به فى الخامس والعشرين من يناير. كنا قد حاولنا هنا قبل نحو العام أن نلق بعضا من الضوء على مفهوم «العدالة الانتقالية» الذى مازال ملتبسا عند كثيرين. وأظن، أن التذكير بالمفهوم ومقتضياته وآلياته قد يكون واجبا الآن أكثر من أى وقت مضى. لن نضيف جديدا، وإنما نذكر بما يشير إليه المفهوم، حسب تعريف الأممالمتحدة (2004) وحسب ما تذهب اليه الخبرة المتراكمة لدارسى تجارب الانتقال الديمقراطى، سواء فى مرحلة ما بعد الحرب الثانية (1939-1945) أو سقوط جدار برلين (1989)، أو تلك المتميزة فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية. ويعنى المفهوم ببساطة: مجموعة الأساليب والآليات التى يستخدمها مجتمع ما فى فترة انتقالية فى تاريخه (بعد اندلاع ثورة أو انتهاء حرب) للتعامل مع تركة من تجاوزات الماضى، تضمن عدم تكرارها، ولضمان تحقيق العدالة «بمفهومها الأوسع»، ولتوفير مقتضيات الانتقال «السلمى والآمن والحقيقى» من الحكم السلطوى لنظام قمعى داخل البلاد إلى نظام ديمقراطى حقيقى يشعر فيه المواطنون «بالعدالة». ليس فى ذلك جديد، كما لا قد يوجد جديد فى التذكير بما أشرنا اليه قبل ذلك، من أنه ورغم حقيقة أن هناك «خصوصية» لكل حالة، وأن لا دواء واحدا يمكن وصفه ب«الجرعة ذاتها» لكل المرضى وإن تشابهت الأعراض. إلا أن هناك دائما عناصر أساسية لابد من الأخذ بها، وإن اختلفت التفاصيل. وللعدالة الانتقالية (الانتقال الديموقراطى)، حسب ما تقوله الكتب خمسة عناصر (أستأذنكم فى التذكير بها كما هى): أولا: الكشف عن الحقيقة «الكاملة» على قسوتها، ليس بهدف التشهير أو الانتقام، وإنما بهدف بناء وعى جمعى «مستَنكِر» لما جرى من انتهاكات بشكل يجعل من الصعب تكرارها فى المستقبل. وكذلك بغية التوثيق لمرحلة مهمة فى تاريخ المجتمع حتى يمنع تزويرها أو إعادة كتابتها مستقبلا. ثانيا: المحاكمات: أخذا فى الاعتبار أن المحاسبة هنا ينبغى أن تتجاوز ما هو جنائى «له اشتراطاته» إلى ما هو سياسى، من قبيل الفساد والرشوة وتزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية... إلخ. ولنظام يوليو 1952 تجربة مهمة فى هذا المجال، بقانون أحكم السنهورى صياغة مواده قبل ستين عاما (قانون رقم 344 لسنة 1952 المعدل بالقانون رقم 173 لسنة 1953، والمسمى بقانون الغدر» ثالثا: التعويض وجبر الضرر: ولا بد هنا للأسف أن نأخذ بالحسبان أن الكثير من الانتهاكات التى حصلت فى الماضى لا يمكن بالضرورة استرجاعها، أو التعويض عنها. كما لا بد من أن ندرك أن جبر الضرر يتجاوز بكثير «التعويض المادى» أيا ما كانت قيمته. وفى هذا تفصيل كثير. رابعا: الإصلاح المؤسسى: لا يمارس النظام ظلمه أو تجاوزاته الا بالاعتماد على مؤسسات الدولة التى تصبح تدريجيا أدوات لقمعه؟ وتقول التجارب إنه لا يمكن استيفاء متطلبات التحول الديمقراطى دون وجود تصور متكامل وواقعى لإصلاح ثلاث مؤسسات يعتمد عليها النظام المستبد عادة، فتصبح تدريجيا أدوات لقمعه. وهى مؤسسات (الأمن والقضاء والإعلام)، مع ملاحظة ما أيدناه سابقا: 1 ألا يعنى هذا الإصلاح «هدما» لتلك المؤسسات. 2 ألا يكون معنى الإصلاح مجرد «تغيير للولاءات» من السلطة القديمة إلى السلطة الجديدة. كيف يكون الإصلاح إذن؟ لن نحتاج إلى «إعادة اختراع العجلة»، فالدراسات كثيرة جدا فى الموضوع. ومنها بالمناسبة الجهد المتميز للصديق حسام بهجت (من المبادرة الشخصية للحقوق الشخصية) لكيفية إصلاح الأجهزة الأمنية، وهى المحاولة التى ضلت طريقها رغم تقديمها لكل مسئولى الإخوان عندما كانوا فى الحكم. كما أن منها مشروع قانون «السلطة القضائية» الذى كان قد أعده (مع آخرين) المستشاران مكى والغريانى قبل سنوات، وضل طريقه أيضا فى مجالس الإخوان التشريعية التى اختارت أن تشغلنا بدلا من ذلك بمعركة «وهمية» حول قانون المواد الأربع الشهير.
وبعد.. نتهم مبارك باستغلال نفوذه للحصول على فيللتين بشرم الشيخ. ثم نتهم مرسى باستغلال منصبه «للتخابر مع حماس». ننشغل بتكييف الاتهامات والدفوع والمذكرات. ويبحث المحامون عن قانون مهجور هنا، أو فقرة منسية فى قانون هناك. ننقسم يوميا حول إجراءات المحاكمة، ثم حول الحكم، الذى يريده كل منا بالطبع «على هواه». وننسى، كما نسينا من قبل أن «النظام لم يتغير بعد، وأن «الثورة»، إن أردنا تعريفا أكبر من ذلك بكثير، والتغيير، إن أردنا تحقيقا، أبعد من ذلك بمراحل. ننشغل بالمحاكمتين؛ صورا ومشاهد ومشاجرات. وننسى أن الأولى بالانشغال هو النظام الذى طالب الناس بتغييره فى 25 يناير فلم يتغير، لا بانتخاب مرسى ولا بخروجه، رغم احتفالات الحادى عشر من فبراير 2011، أو تلك المماثلة فى الثالث من يوليو 2013 وإن تمنى الكل ذلك. إذ لم تكن الأمنيات أبدا كافية «لحرث الأرض»، ناهيك عن إنباتها.