«تشابه النظام القضائى المصرى ونظيره الفرنسى.. ما هو إلاّ مجرد شعار وجملة مغلوطة مبنية على كثير من المعلومات الخطأ».. هذه هى النتيجة النهائية التى تخرج بها من سطور هذه المقابلة التى أجرتها «الشروق» مع اثنين من القضاة الفرنسيين، كانا فى زيارة إلى مصر الأسبوع الماضى، فى إطار برنامج تبادل بين وزارة العدل المصرية ومعهد القضاة الفرنسى لدراسة حالات الفساد المالى وقضايا غسل الأموال. القاضيان هما أونرى بونس، عضو محكمة النقض الفرنسية ورئيس إحدى دوائر الجنايات بها، وشارل تيلييه، القاضى المتخصص فى الشئون الجنائية والمدنية بمحكمة مدينة نيم بجنوب فرنسا.
وكان الحوار هو محطتهما الأخيرة فى القاهرة بعد أسبوعين من المقابلات التى عقدها مع رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المحكمة الاقتصادية والمسئولين بوزارة العدل ومجلس الدولة وعدد من الجهات الرقابية مثل جهاز حماية المستهلك وجهاز حماية المنافسة، خرجا منها جميعا باستنتاج بارز على مستوى دراستهما، وهو أن آليات مكافحة الفساد فى مصر موجودة والمشكلة فى التفعيل والاهتمام الحكومى بها، وكذلك فى تداخل اختصاصات بعض المحاكم والهيئات القضائية.
كان أزمة خفض سن تقاعد القضاة فى مصر أول سؤال فى المقابل ليرد القاضيان الفرنسيان وعلى وجههما ابتسامة سخرية بالقول إن «هذه الأزمة لا يمكن أن تحدث فى فرنسا، ولو حدثت لما اهتم بها 150 شخصا لسنا منهم» رغم أنهم قضاة.
وقال تيلييه ضاحكا: يبدو أنها أزمة حقيقية هنا وتشغل بال القضاة، فقد وجه لنا كل القضاة الذين قابلناهم هذا السؤال، وهذا أمر غير مفهوم بالنسبة لنا، لماذا تقدم السلطة على خفض سن تقاعد القضاة، بينما يسمح القانون الفرنسى للقاضى الاستمرار لما بعد سن التقاعد الرسمى وهو 65 عاما، لاستيفاء الالتزامات المادية والضريبية عليه وزيادة معاشه بعد أن يقدم طلبا بذلك إلى البرلمان، فلم يعد مقبولا إجبار أحد على ترك عمله، فى ظل ارتفاع مستوى الرعاية الصحية وارتفاع متوسط الأعمار.
ثم انتقل تيلييه إلى نقطة أخرى متسائلا عن سبب الغضب من حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب فى 14 يونيو 2012.
أجبته بأن بعض القوى السياسية تعتبر أن هذا الحكم مشوب بأغراض سياسية، إلاّ أنه قاطعنى قائلا: هذا الحكم استند إلى حيثيات قانونية وليس للانتهازية السياسية، وهذا الواقع يختلف عما لدينا فى فرنسا، لأن المجلس الدستورى الفرنسى (المحكمة العليا) ليس له سلطات واسعة، وقريبا فقط تطور وأصبح من الممكن التقاضى أمامه وأن يصدر أحكاما مثل محكمتكم الدستورية، مع ملاحظة أن تشكيله ليس قضائيا خالصا فرؤساء الجمهورية السابقين يعينون فيه فور تقاعدهم.
أما حل البرلمان فهو لدينا قرار سياسى وليس قانونيًا، يمكن لرئيس الجمهورية فقط أن يتخذه، محاولا الموازنة بين التيارات السياسية أو السلطات.
ندب القضاة مصرى وليس فرنسيًا وكان المحور الثانى للحديث هو ندب القضاة، الظاهرة التى تثير جدلاً واسعًا فى مصر، والتى تدخل الدستور للحد منها بالنص صراحة على أن يكون ندب القضاة للجهات الحكومية كل الوقت فقط، مما يعنى إبعادهم عن المنصة طوال فترة الندب، غير أن القوانين السارية مازالت تسمح بندب القضاة بعض الوقت (غير أوقات عملهم الرسمية).
هذا النظام المصرى فاجأ القاضيين الفرنسيين، خاصة أونرى بونس الذى كانت له تجربة ندب حكى تفاصيلها قائلا: لدينا لا يوجد شىء اسمه الندب بعض الوقت، إذا أردت كقاضٍ أن تخوض تجربة كمستشار قانونى لجهة ما أو قيادى تنفيذى فى هيئة إدارية، عليك تقديم اعتذار عن ممارسة عملك القضائى حتى تنهى هذه التجربة الإدارية، والتى تكون فى العادة مهمة للغاية وتصقل القاضى علما وخبرة بما يحدث فى كواليس السلطة التنفيذية فيستفيد منها فى عمله كقاض، والقانون لدينا يتيح للقضاة الفرنسيين الانتداب خارج البلاد، فى الاتحاد الأوروبى أو هيئة الأممالمتحدة.
وأضاف: لا يمكن انتداب قاض بقرار فوقى، بل هو الذى يطلب ما يشبه الإجازة لمدة معينة، يبتعد خلالها تمامًا عن المنصة والتحقيقات، وفور انتهاء فترة عمله الخارجى يعود إلى القضاء دون أن تتضرر أقدميته، ولكن بشرط أن يبتعد عن موقع العمل الذى كان فيه قبل الندب.
ومنذ 15 عاما، وعندما كنت قاضيًا للتحقيق فى الجرائم المالية والاقتصادية، طلبت أن أعمل فى هيئة سوق المال (البورصة) وابتعدت عن القضاء 3 سنوات، كانت كفيلة بأن أتعرف عن قرب على كل ما يتعلق بالجرائم والجنح المالية، وبعدها انتقلت إلى محكمة باريس.
رؤية فرنسية لقضايا نظام مبارك سألتهما عما إذا كانا متابعين لقضايا النظام السابق فى مصر، وعلى رأسها قضية قتل المتظاهرين المتهم فيها حسنى مبارك، وما إذا كان الحكم قد تأخر من وجهة نظرهما فى هذه القضايا، كما يتهم البعض القضاء المصرى بالتباطؤ.
أجاب بونس: كم استغرقت حتى الآن قضية مبارك.. عامين؟ إنه وقت عادى جدا فى فرنسا، ولا أشعر بأنه يمثل أى تأخير، فلو كانت أمامى قضية جنائية بسيطة كرجل قتل زوجته، واعترف الرجل فعلا، لا يمكننى إصدار الحكم عليه قبل عام على الأقل، لأن هناك إجراءات يجب استيفاؤها وعرض القاتل على الطب النفسى والاجتماعى.
وقضية مبارك ليست سهلة إطلاقا كما سمعت، رغم أننى لم أطلع عليها، وتتعلق بوقائع عديدة، ولدينا قضايا غسل الأموال والفساد المشابهة لقضايا النظام السابق لديكم تستغرق من عامين إلى 3 أعوام لنحكم فيها، والقانون الفرنسى يتيح لى إذا تمت إدانة المتهم مصادرة جميع أملاكه وثرواته وليست الأموال المرتبطة المخالفة او القضية فقط، وحتى إذا كان باقى ثروته نظيفة أو جمعها منذ ما قبل ارتكابه الجرائم، وبالتالى فإن هذا النص رادع.
من ناحيته أكد تيلييه أن القضاء العادى أفضل مليون مرة من القضاء الاستثنائى على الأمد الطويل، لأنه يزرع فى المواطنين حب العدل والالتزام بالقانون، ولدينا فى فرنسا تجربة سيئة مع القضاء الاستثنائى، عندما أنشأ نظام فيشى الموالى للنازى إبان الحرب العالمية الثانية محاكم استثنائية لملاحقة الجمهوريين الأحرار، وللأسف فبعد انتصار الحلفاء وسقوط حكومة فيشى، ارتكب الجمهوريون الخطأ ذاته وحاكموا أتباع النازى أمام القضاء الاستثنائى، وهذا الأمر أثر على سمعة القضاء الفرنسى بشدة.
واستطرد تيلييه: أقول للمصريين «لا تقلقوا.. خذوا وقتكم.. والعدالة الحقيقية أهم من سرعة الإدانة.. فبالتأكيد لا يرضى أحد بتكرار المحاكمات العبثية كالتى حدثت فى رومانيا عند إسقاط شاوشيسكو».
ارتباك قضائى فى مكافحة الفساد كان مهما سؤال القاضيين عن ملاحظاتهما الأساسية على موضوع دراستهما وهو آلية محاربة الفساد وغسل الأموال فى مصر.
فاجأنى بونس بقوله: أثار انتباهنا بشدة أن المحكمة الاقتصادية وهى المعنية بالبت فى قضايا الفساد المالى والجنح الاقتصادية، ليست مختصة بجرائم غسل الأموال ومكافحة الفساد، مما طرح لدينا تساؤلات عديدة حول ترابط المنظومة القضائية المصرية فيما يتعلق باختصاصات المحاكم، فبذلك تكون هذه المحكمة الاقتصادية محرومة من النظر فى أحد الملفات الرئيسية التى يجب أن تختص بها.
وأضاف: لا أتصور مثلا أن يقدم للمحاكمة متهم بارتكاب جريمتين ذات طابع اقتصادى كالتربح وغسل الأموال، وتباشر القضية محكمتان مختلفتان وليس محكمة واحدة، وبالتالى يجب أن يكون هناك محكمة واحدة مختصة بجميع أشكال القضايا المالية، حتى لا يحصل المتهم على البراءة فى جريمة والإدانة فى جريمة أخرى، وهما فى الأصل مرتبطتان.
وعن منظومة المحاكم الاقتصادية والمالية فى فرنسا، قال بونس إن هناك أقسامًا قضائية متخصصة فى الجرائم المالية والاقتصادية فى 6 مدن فرنسية كبرى هى باريس وليل وليون ومارسيليا وبوردو وباستيا، وتستعين هذه الأقسام بقضاة تحقيق ونواب عموم ومساعدين إداريين متخصصين فى المسائل المالية (يكونون من موظفى الحكومة، من الجمارك أو البورصة أو الضرائب أو مصرف فرنسا) ويساعدون القضاة فى إعداد ملفات التحقيق والاتهام، وبعد انتهاء التحقيقات، تحال الملفات إلى المحاكم المختصة جغرافيا بارتكاب الجريمة، وفى كل محكمة توجد دائرة اقتصادية ومالية تنظر هذه القضايا.
وبعد صدور الحكم النهائى يمكن للمدان الطعن فى الإجراءات فقط وليس فى الوقائع أمام محكمة النقض بباريس، والتى تأمر بصحة الحكم أو إعادة إجراءاته دون التعرض للموضوع.
وحول ما إذا كانت التشريعات المصرية تتيح النجاح فى مكافحة الفساد، أكد بونس أن مصر وقعت على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، والتى وضعت آليات محددة لتتبع جرائم الفساد المالى وغسيل الأموال، إلاّ أن إنجاح هذه الآليات يتعلق بمدى كفاءة وإرادة الأجهزة المعنية مثل القضاء والشرطة.