أقدمت الدول العربية على الدخول فى اتفاقيات الاستثمار الثنائية بشكل متزايد خلال العقود الثلاثة عقود بهدف اجتذاب الاستثمار الأجنبى المباشر، تتصدر مصر الدول العربية من حيث عدد اتفاقيات الاستثمار الثنائية التى وقعت عليها، والتى تتجاوز حاليا المائة اتفاقية. من أخطر ما تتضمنه هذه الاتفاقيات هى القواعد التى تعطى الحق للمستثمر الأجنبى بمقاضاة الدول من خلال محافل التحكيم الدولية، هذا وقد ارتفع عدد القضايا التى رفعها المستثمرون الأجانب ضد مصر فى محافل التحكيم الدولية، والتى غالبا ما تعمل خلف الأبواب المغلقة دونما أى نوع من الشفافية حتى إننا لا نستطيع متابعة عدد القضايا التى يتم تقديمها. من القضايا ضد مصر المعلن عنها حتى اليوم 19 قضية رفعت من خلال «المركز الدولى لفض النزاعات المتعلقة بالاستثمار»، وهو إطار تابع للبنك الدولى. ستة من هذه القضايا رفعت ضد مصر بعد ثورة 25 يناير 2011. وتواجه مصر نتيجة هذه القضايا مطالبات بأكثر من مليار دولار.
ماذا تتضمن هذه الاتفاقيات؟
يتم الترويج لاتفاقيات الاستثمار الثنائية على أنها أساسية لتعزيز مناخ الاستثمار وجذب الاستثمارات الاجنبية، فنجدها تركز على هدف وحيد هو توفير أقصى قدر من الحماية غير المشروطة للمستثمرين الأجانب دونما ربط تلك الضمانات بأية مسئولية على عاتق المستثمر.
وبينما يتم الترويج لهذه الاتفاقيات على أنها أداة للنمو الاقتصادى واجتذاب الاستثمارات، فإن تجارب الدول تظهر انها تحمل تهديدا كبيرا على العملية الديمقراطية، والسياسات العامة وقدرة الدولة على تنظيم القطاعات الاقتصادية من أجل المصلحة العامة وضمن اطار يدعم الاستدامة والإنتاجية ويسهم فى تحقيق تنمية مولدة لفرص العمل.
كما من المهم الاشارة إلى أنه لا يوجد علاقة مثبتة ما بين اتفاقيات حماية الاستثمار الدولية من جهة واجتذاب الاستثمار من جهة ثانية. فإن دولة مثل البرازيل التى لم تبرم أيا من هذه الاتفاقيات هى من أكثر الدول النامية اجتذابا للاستثمار. وتشير الدراسات الى أن المستثمرين يعطون الاولوية للأسواق الاقتصادية التى تنمو باستدامة وباستقرار والتى تتوافر فيها نسب عالية من اليد العاملة الماهرة وأصحاب الشهادات والمهارات، وليس بالضرورة تلك التى التزمت باتفاقيات استثمار دولية. كما أن هذه الاتفاقيات تفتح المجال امام تعرض الدول لقضايا تحكيم دولية فى حالات واسعة، منها حالات إعادة تنظيم قطاعات اجتماعية أو أقتصادية لأسباب تنموية.
تتضمن هذه الاتفاقيات قواعد تركز على حماية المستثمر والاستثمار واهمها:
مفهوم واسع للمستثمر والضمانات المقدمة اليه، فتشمل هذه الاتفاقيات اشكالا واسعة من الوجود التجارى بما فى ذلك اعتبار الملكية الفكرية استثمارا يمنح حماية الاتفاقية، بالإضافة إلى تأمين الحمايات للاستثمارات القائمة على المضاربة والتى ليس لها قيمة مضافة تنموية.
الحق فى المعاملة بالمثل مع المستثمرين المحليين والمستثمرين من البلدان الأخرى (ما يشار اليه بمبدأ المعاملة الوطنية ومبدأ الدولة الاولى بالرعاية) مما يقلص قدرة الدولة على تامين البيئة الملائمة لتقدم ونمو مؤسسات القطاع الخاص الوطنية وتشجيع الاستثمارات الوطنية، وفى كثير من الأحيان يؤدى الى مزاحمة الاستثمارات المحلية وأخراجها من السوق.
إعطاء الحق للمستثمر بمقاضاة الدولة فى محافل التحكيم الدولى مقابل مبالغ طائلة تدفع من الميزانيات العامة وبعيدا عن الرقابة الشعبية ويقوم المحكمون الدوليون فى هذه القضايا، والذين يعملون بعيدا عن المسائلة العامة، بتوسيع قراءتهم القانونية لقواعد هذه الاتفاقيات المتعلقة بمعايير الحماية المطلقة للمستثمر مما يؤدى الى تحدى ونقد العديد من تدخلات الدولة لتنظيم القطاعات الاقتصادية الوطنية، حيث تعتبر خرقا لحق المستثمر وانتهاكا لتوقعاته الربحية.
لقد أدت هذه الحالات إلى خسارة الدول مبالغ طائلة من خلال أحكام دولية، فأجبرت الدول بسببها على اقتصاص هذه المبالغ من الموازنات العامة من أجل التسديد إلى المستثمر الأجنبى مبالغ لم يستثمرها محليا فى بادئ الأمر. هذا ويؤدى نموذج فض النزاعات ما بين المستثمر والدولة من خلال التحكيم الدولى إلى تهميش منظومة القضاء الوطنى ودورها كملاذ للمواطنين للدفاع عن حقوقهم المشروعة.
شركة اندوراما تقاضى مصر دوليا بعد ابطال عقدها من خلال القضاء الوطنى
تتضمن القضايا الستة التى رفعت ضد مصر بعد ثورة 25 يناير، وذلك من خلال المركز الدولى لفض النزاعات المتعلقة بالاستثمار، قضية تقدمت بها شركة أندوراما معتمدة على أحكام اتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر والمملكة المتحدة التى يعود تاريخ ابرامها إلى عام 1976.
كانت شركة أندوراما قد دخلت فى عقد خصخصة مصنع شبين الكوم للغزل والنسيج فى العام 2007، هذا المصنع الذى لعب دورا مركزيا فى تاريخ صناعة النسيج والملابس فى مصر. فى ظل الحراك الشعبى وثورة 25 يناير 2011، خرج عمال المصنع ثائرين فى وجه الانتهاكات التى تعرضوا لها من قبل شركة أندوراما ومعترضين على الإهمال الذى تعرض له المصنع فى ظل خصخصته والتراجع الذى شهده من ناحية انتاجيته ومطالبين بإعادة المصنع إلى ملكية الدولة. وقد حكمت المحكمة الإدارية بعد النظر فى القضية ببطلان العقد نتيجة انتهاك القوانين الوطنية خلال عملية الخصخصة إضافة إلى انتهاك شروط العقد من قبل المستثمر. هذا وأبطلت المحكمة شرط التحكيم الدولى المضمن فى العقد. بالرغم من ذلك، استطاع المستثمر اللجوء الى التحكيم الدولى لمقاضاة مصر، مستفيدا من أحكام اتفاقية الاستثمار الثنائية ما بين مصر والمملكة المتحدة، حيث لشركة اندوراما فرع مسجل فى المملكة المتحدة، بينما مقرها الأساسى فى أندونسيا.
من الممكن أن تواجه مصر حكم بملايين الدولارات نتيجة هذه القضية، بالرغم من أن المستثمر قد انتهك القوانين الوطنية ويعتبر خارج عن القانون المصرى ومنتهكا لحق العمال المصريين الذين خرجوا للدفاع عن الصناعة المصرية وعن حقوقهم المنتهكة.
ألا يشكل هذا الواقع المترتب عن طبيعة اتفاقيات الاستثمار الدولية والقواعد التى ترسيها وضعا يضعف العملية الديمقراطية التى قامت ثورة 25 يناير للمطالبة بها؟ ألا تعبر هذه الحالة، ومثلها حالات عديدة أخرى، عن تجاوز للقضاء الوطنى والمسارات الديمقراطية التى يجب أن تحمى الحق العام والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين والمواطنات؟
بالفعل، فإن قدرة المستثمر الالتجاء الى التحكيم الدولى بالرغم من ابطال العقد الذى يربطه بمصر يمثل قوة مضادة لنضالات العمال وحقهم فى حماية يؤمنها لهم نظام القضاء الوطنى. فإن التحكيم الدولى فى ظل اتفاقيات وعقود الاستثمار يمثل القناة الدولية الرئيسية التى يتم من خلالها الطعن بعمليات الإصلاح الوطنية من قبل المستثمرين الأجانب وتحديها والقيام بذلك خارج إطار منظومة المحاكم الوطنية والدستورية.
فى الواقع، تمثل مثل هذه الحالات دلائل على مدى التأثير السلبى لنموذج اتفاقيات الاستثمار الدولية التى تعطى حق المستثمر الأجنبى مقاضاة الدولة من خلال محافل التحكيم الدولية، مما يضعف قدرة المؤسسات الوطنية على تنظيم القطاعات الاقتصادية من اجل المصلحة العامة والتنمية الاقتصادية الوطنية ويشكل تهديدا خطيرا على المسارات الديمقراطية وعلى قدرة الحكومات العمل من أجل المصلحة العامة والتجاوب مع المتغيرات فى الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
فهل حان الوقت لجهد وطنى، تساهم فيه الأطراف المعنية كافة، لمراجعة أثر الالتزامات التى اتخذتها مصر فى اطار اتفاقيات الاستثمار الدولية والعمل على التأسيس لسياسة استثمار تترسخ بالمصالح الاقتصادية والتنموية الوطنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين.