«ليس هناك ما هو أشد خطرا في الدنيا من إرتباك العقل البسيط»، وهذه هي ياصديقي مأساتنا التي تجعلنا الآن ضحايا لأصحاب العقول البسيطة من كل التيارات، أولئك الذين لا يؤمنون بالتفكير المركب ولا يعترفون بتعقيدات الواقع القادرة على هزيمة كل من يدعي إمتلاك الحقيقة المطلقة، ولذلك يتصور بعضهم أن الحل لما نحن فيه في أن يغضب الرئيس الإخواني فيفتح المعتقلات لكل معارضيه على إختلاف أطيافهم، كأنه لو فعل سينفي حقيقة كذبه وفشله، ويتصور البعض الآخر أن الحل هو أن تريحنا من الإخوان وأنصارهم قوة غاشمة تعيدهم إلى السجون، كأن ذلك سينجح حقا في إزالة أنصار تيارات الشعارات الإسلامية من الوجود إلى الأبد. عمنا المتنبي وعد كل ذي عقل بأنه سيشقى في النعيم بعقله، ولذلك ليس أمام كل ذي عقل سوى أن يتعود على معاشرة الشقاء في جحيم أيامنا هذه، ويستمر دائما في تذكير أصحاب العقول البسيطة من كل التيارات ببديهيات من نوعية أن محارق هتلر لم تقض على اليهود بل على العكس كانت دعامة لقوة وإنتشار الحركة الصهيونية، وأن محارق الصهاينة في إسرائيل لم تقض على النضال الفلسطيني بل زادت حركاته تنوعا وشراسة، وأن كل ما قام به حكم العسكر خلال الستين عاما الماضية من تنكيل بتيارات الشعارات الإسلامية منحها شرعية المضطهد وساعدها على أن تكون البديل في أذهان الملايين دون أن يكون لدى هذه التيارات بديل حقيقي سوى الشعارات، بدليل أنها خسرت في تسعة أشهر كثيرا مما كانت قد كسبته بالقمع والإضطهاد.
هل سيأكل هذا الكلام ببصلة مع أصحاب العقول البسيطة؟، أكون حمارا طويل الذيل قصيرا الذاكرة لو قلت نعم، لأنهم لن يسمحوا لأحد أن يوقف صراعهم المحموم من أجل التخلص من خصومهم، ولذلك إذا وجدت بينهم من يراهن على تكرار تجربة إبادة الهنود الحمر من الوجود مع من يعارضونه من أبناء بلده بإسم الدين أو بإسم التحضر، ويعتبر أنك بحديثك الماسخ هذا تعوق مهمته الجليلة، فليس أمامك سوى رفع شعار «دعه يعمل دعه يمر»، لأن التجارب ستعلمه أن هذا الإختيار لن يكون نزهة صيفية لطيفة، ولن يقلل من تكلفته الباهظة أن من اختاره يظن نفسه مؤيدا من السماء أو يظن نفسه مبعوث الحضارة إلى بر مصر. سيظل هؤلاء يطحنون في بعضهم ويطحنون فينا أيضا، حتى يأتي على من تبقى منهم ومنا يوم يكتشف فيه الجميع أنه لا يوجد أمامهم خيار سوى أن يتعايشوا معا، حتى لو كان كل منهم لا يطيق رؤية وجه الآخر أو سماع صوت الذين خلفوه، سيأتي ذلك بعد شهر أو عام أو ربع قرن، سيتحقق بعد عنف محدود أو عنف شامل أو حرب أهلية، سيحصل بعد أن يسقط ثمنا له العشرات أو المئات أو الآلاف أو الملايين، لكن العيش المشترك سيأتي لا محالة، تماما كما أتى في الدول المتقدمة التي لم تنله مجانا، بل دفعت من أجله ثمنا باهظا ببركة أًصحاب العقول البسيطة من شتى المشارب والأفكار.
أقول قولي هذا وأنا غارق حتى الأذقان في حمأة هذا الصراع السياسي مع سلطة الإخوان التي تظن أنها يمكن أن تفلت من الحساب بكذبها وخداعها وإنتهازيتها، وهو صراع سيظل شريفا طالما ظل على أرضية الثورة دون غيرها، وسنخرج منه إلى مستقبل أفضل لو أدركنا أنه صراع حدود لا صراع وجود، هذه قناعتي وهذا إختياري، ويضحكني أن يتصور البعض أنني يجب أن أنصاع لإختياراتهم التي تتصور أن حل مشاكل مصر وعلى رأسها مشكلة التطرف الديني موجود في تجارب الماضي، إما في نسخة أكثر تهذيبا وأقل فسادا من مبارك، أو نسخة أكثر عصرية من عبد الناصر، أو نسخة أطول عمرا من السادات، وهؤلاء عندي كمن يعتقد أن حل مشاكل مصر يكمن في إنتاج نسخ عصرية من الخلفاء الراشدين، وظني أن الجميع سيكتشف طال الوقت أم قصر أن الحل موجود فقط في مستقبل نبنيه بإعلان قطيعة مع كل أخطاء الماضي، قطيعة مبنية على المعرفة والنقد، وليس على الإنكار والجعجعة.
وإلى أن يحدث ذلك، ستظل الحرية هي خلاصنا الوحيد، خاصة لو أدركنا أنها ليست نزهة، لأنها تتطلب «اليقظة الدائمة والصبر على السقوط الدائم في الوحل»، كما قال الكاتب العظيم جورج أورويل، وسيظل سبيلنا لتحقيق أهداف الثورة أن نمارس أولا «ثورة ذهنية، ثورة في الرؤية ونمط التفكير، ثورة تقترن بالوعي بتجربة التاريخ الإنساني» على حد تعبير المفكر الراحل علي شريعتي الذي لا غنى لأي ثائر عن قراءة كتابه (بناء الذات الثورية) للتسلح به في مواجهة أصحاب العقول البسيطة المرتبكة، ستجده يقول لك أن الضعف واليأس هما «أخطر مرضين يقفان بالمرصاد للثائر، وعندها ستحتاج روحه إلى الأمل الذي سيكتسبه من قراءة سير العظماء من الرجال والآداب الثورية والإيمان بثقافة الهجوم والمقاومة وألا يسمح لنفسه بأن يوضع في موقع المدافع أبدا»، ستجده يركز على خطورة تحول الثائر إلى طاغوت وهو يدافع عن الحرية، فيدوس حرية الآخرين بقدميه، ستجده يذكرك أن نضج المجتمع لن يأتي إلا بتنوع الأفكار والإختيارات وأن مأساة أي مجتمع تبدأ من قلقه من تنوع الأفكار وقضائه على الحرية الفكرية، خصوصا لو ضحى بها من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية لأنه سيكتشف أن الوعد بها في ظل سيطرة ديكتاتور ليس سوى خداع ينكشف مع الزمن.
هذا هو الطريق كما أراه، بالتأكيد يبدو صعبا ومرهقا وغتيتا، لكنني أؤمن أن مواصلة السير فيه بدأب ووعي ومعافرة هي التي ستنهي ما نعيشه من أحزان أؤمن مع صلاح جاهين بأنها «راح تنتهي ولا بد راح تنتهي، مش إنتهت أحزان من قبلها»، وظني أن القافية وحدها منعت جاهين من التأكيد على أنه ستأتي بعد الأحزان التي انتهت أحزان من بعدها، ستنتهي بدورها مفسحة المجال لأحزان جديدة، وهكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها من أصحاب العقول البسيطة والمركبة.