لأنها عادتنا ولن نشتريها، لم نحتفل رسميا اليوم بمرور 120 سنة على ميلاد بيرم التونسي شاعر الشعب المصري وفنانه وساخره الأول، مع أنه كان يستحق منا كل الإحتفال والإحتفاء، ليس فقط لأنه «أبو شعر العامية المصرية»، وليس لأنه أيضا «أبو الصحافة السياسية الساخرة» في مصر، وليس فقط لأن له أياد بيضاء على السينما المصرية والمسرح المصري والغناء المصري والإذاعة المصرية، ولكن لأنه فوق كل هذا مفكر شعبي من الطراز الرفيع كانت لديه قدرة ساحرة على إيصال أعقد الأفكار بأبسط الوسائل إلى الغالبية العظمى من الناس، أعترف أنني كنت أجهل جانبه الفكري المشرق وجانبه القصصي أيضا، حتى وقعت بالصدفة على الجزء الثاني من مجلدين جمعا آثار بيرم التونسي في منفاه في تونس في مطلع الثلاثينات، وهي الآثار التي جمعها الكاتب التونسي محمد صالح الجابري وصدرت ببيروت في عام 1987، ولم تكلف أجهزة الثقافة الرسمية في بلادنا نفسها عناء إعادة طبعها، فضلا عن أنها لم تكلف نفسها عناء إعادة طبع وتوثيق وتصنيف وتحقيق تراث بيرم التونسي المطبوع والمسموع والمرئي برغم أن ذلك التراث يعتبر تاريخا فنيا وأدبيا للحياة السياسية والإجتماعية في مصر منذ عشرينات القرن العشرين وحتى رحيله في 5 يناير 1961، أعلم أن هناك سلسلة كتب صدرت في مطلع الثمانينات وأعيد طبعها مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بها أعمال مجمعة لبيرم صدرت بإشراف الأستاذ رشدي صالح، لكنها كانت للأسف مجمعة تجميعا عشوائيا ليس به تحقيق ولا تدقيق فضلا عن تكرار نشر القصائد ذاتها في أكثر من جزء، على عكس ماقام به أخونا التونسي الجميل الذي أعقب كل مقال وقصيدة لبيرم بتاريخ نشرها وملابسات ذلك النشر وشرح للأعلام والأماكن والأحداث الوارد ذكرها في النص، بحيث تشعر أنك تقرأ تاريخا كاملا لبيرم ولتونس في تلك الفترة. بهرتني أعمال بيرم الفكرية والقصصية والدينية المنشورة في المجلد الذي قرأته، وتوقفت طويلا عند مقال كتبه بيرم بعنوان (هل تحترمون دينكم؟) تعليقا على حملة قامت بها في زمنه بعض الأقلام المتشددة تكفيرا لمسرحية تونسية كتبها عالم إسلامي، كشف بيرم في مقاله أن الحملة التي تم شنها على المسرحية لم يكن هدفها الغيرة على الدين بل كانت مدفوعة من جمعية إسلامية منافسة للجمعية التي قدمت المسرحية، وكانت النتيجة ضرب المسرحية بسلاح التكفير الفتاك ليتم وقفها فورا. كنت أتمنى أن أعيد نشر المقال كاملا، لكنني اخترت لظروف المساحة أن أعيد نشر جزء صغير ومهم منه، يقول فيه بيرم واصفا بعض من يزعمون أنهم يدافعون عن الإسلام «هذه الطغمة الفاسقة تقترف من ضروب المعاصي ما يلحقها بسكان السعير الأسفل، وتبيت ناسية جرمها مطمئنة إلى إثمها، لا تذكر من كتاب الله آية زجر، ولا من حديث نبيه كلمة وعظ، حتى إذا اشتجر منها رجلان على موسى، أو حذاء قديم خرج الإثنان إلى الميدان متسلحين بالمصحف، يتقاذفان بآياته الكريمة في خصامهما الوضيع، ومن هذه الطغمة وحدها تسمع الترامي بكلمات الكفر والإلحاد، بينما المكلفون بالمحافظة على الدين خرس بكم، لا وجود إلا لأشباحهم.
كل السفلة تتغير أساليبها في الحياة، فلا تبقى اللصوص على طريقة واحدة، ولا الظالمون على وتيرة واحدة، إلا سفلة الأديان، فالدين هو السلاح القديم والجديد، لا يعنيهم أن الناس عرفتهم واستسمجت دعاويهم، ومعظم هؤلاء الرعاع يحمل القلم ليستعمله في تكفير من لا يعجبه، أو من لا ينتظر منه فائدة، ولكن يكون هذا التكفير إلا على صفحات الجرائد، وأما في أوكارهم التي ينكمشون فيها فالدين أول مسبوب على ألسنتهم، والتاجر ورفقائه لا عمل لهم إلا أكل لحوم المسلمين بالغيبة، وتدبير المؤامرات لعباد الله الجادين المخلصين، ثم لا يجدون مايسترهم إلى التلفع بجبة التقوى يمشون بها في الأسواق، ولو كان لأحدهم بدلا من هذه الجبة قليل من المال المهم أو الجاه، لما ظهر إلا في المواخير، ولا ذكر الدين بلسانه طول حياته مهما انمحق هذا الدين وكثر عدد الكفار والملحدين. وياضيعة الدين الذي لا يجد من الأنصار غير مخنث يستغفر الله ويذكره، ولص يستنجد بالله ويستنصره، وجهول لا يعرف الإيمان من الكفر، تطوع للجهاد في سبيل الله فوضع قبلته على يد المجوسي وبصاقه في وجه المؤمن ولا يدري الفرق بين العملين. وياضيعة جيش جرار من المسلمين الذين يحترفون الإسلام بمرتبات شهرية يأخذونها فتنسيهم العالم بما فيه من أديان وأنبياء، ولا يحمدون الله إلا يوم الجمعة في ورقة يقرؤونها فوق المنبر، وكفى بالله شهيدا». ستُصعق عندما تعرف أن بيرم كتب هذا المقال في 12 ديسمبر سنة 1933 في صحيفة الزمان التونسية، لكنك ربما وجدت في قراءته مدخلا إضافيا لفهم ما أصبح عليه اليوم حال مصر وحال تونس أيضا، وحال هذا الوطن العربي الذي عاش بيرم ومات حالما بنهضته.
اليوم وأنا أستعيد فن بيرم وسيرته، أهتف بمصر مع بيرم «قومي اقلعي الطرحة السوده يا أم الهرمين.. وركبي الورده الموضة.. بين النهدين.. يا أم الخصال المعبودة.. أنا أحطك فين»، لكنني أرى أن مصر لن تستجيب لذلك النداء طالما ظل الملايين من أبنائها فريسة للجهل والتطرف والتعصب، فأتمنى لو إمتلكت سبيلا إلى عقل وقلب كل مصري لأهتف بكلمات بيرم «يامصري ليه ترخي دراعك.. والكون ساعك.. ونيل جميل حلو بتاعك.. يشفي اللهاليب.. خلق إلهك مقدونيا.. على سردينيا.. والكل زايطين في الدنيا.. ليه إنت كئيب.. ماتحط نفسك في العالي..وتتباع غالي.. وتتف لي على اللي في بالي.. من غير ماتعيب».
رحم الله بيرم التونسي، ورحم مصر وتونس من سفلة الأديان.