كنتيجة متوقعة للحالة الثورية التى تمر بها البلاد منذ انطلاق ثورة يناير 2011، فقد طورت مصر من تعاطيها السياسى مع أزمة غزة، مواصلة ذات استراتيجيتها فى دعم التسوية السلمية، ومستخدمة فى ذلك معظم أدوات السياسة العامة للدولة. فإعلاميا، شنت مصر حملة منظمة لرفض الغارات الإسرائيلية على غزة، كانت مادتها الرئيسية قرار السيد رئيس الجمهورية بعد ساعات من بدء الغارات فى 14 نوفمبر الحالى بسحب السفير المصرى من تل أبيب، وتكليف رئيس الحكومة بزيارة غزة، فضلا عن كلمتى السيد الرئيس يومى 15 و16 من الشهر الحالى. ●●●
واقتصاديا واجتماعيا، شهد معبر رفح تدفق زيارات المساندة من الأفراد ومنظمات المجتمع المدنى وأحزاب سياسية مصرية وقوافل طبية وإغاثية مصرية إلى قطاع غزة واستقبال الجرحى الفلسطينيين للعلاج بالمستشفيات المصرية.
وعسكريا، ساهمت المناورات التى قامت بها القوات المسلحة فى سيناء خلال الشهر الحالى فى رسم خلفية المشهد لإثبات عودة الجيش بدمائه الجديدة إلى الاضطلاع بمهمته المقدسة فى حماية حدود الوطن، وجاهزية العسكرية المصرية للتعامل مع أية متغيرات إقليمية.
سياسيا، تعاملت مصر رسميا مع الحدث بمقاربة قوامها الفعل لا رد الفعل، وذلك على مستويين: أحدهما دبلوماسى يتمثل فى سحب السفير المصرى من تل أبيب بعد ساعات من بدء العدوان الإسرائيلى، واستدعاء وزارة الخارجية المصرية للسفير الإسرائيلى بالقاهرة وتسليمه رسالة احتجاج بشأن هذا العدوان والتأكيد على ضرورة وقفه فورا، وزيارة السيد رئيس الوزراء لغزة فى 16 من الشهر الحالى، ودعوة مصر لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن وعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب للتباحث بشأن الاعتداء على الشعب الفلسطينى، حيث قرر ذلك الاجتماع الذى عقد بالقاهرة فى 17 من الشهر الحالى تشكيل وفد من وزراء الخارجية العرب لزيارة غزة ودعم الجهود المصرية للتوصل إلى هدنة بين حماس وإسرائيل. وعلى المستوى الأمنى، توسط جهاز الاستخبارات المصرى بين الأطراف المعنية لإبرام هدنة بين حماس وإسرائيل برعاية مصرية، والتى دخلت حيز النفاذ مساء 21 نوفمبر الحالى بعد أسبوع من بدء العدوان.
●●●
وقد تمخض هذا الأداء المصرى عن نتائج، منها:
●● التأكيد على عودة الدور الإقليمى لمصر، باعتبارها رقما لا يمكن إغفاله فى معادلة الأمن الإقليمى وبوابة عبور يصعب تجاهلها فى التسوية السلمية بالمنطقة.
●● استمرار مصر تحت حكم رئيس منتم إلى جماعة الإخوان المسلمين فى لعب دور الطرف الثالث فى تلك التسوية، رغم المعارضة الكلاسيكية التى تلاقيها التسوية من قبل التيار الإسلامى منذ زيارة السادات للقدس عام 1977. ويؤكد هذا الاستمرار غياب التغير الراديكالى فى السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة، حيث إن مكمن القصور فى تلك السياسة لم يكن أساسا فى التوجه بقدر ما كان فى مدى استقلاليتها، وممارسة الدور، وطبيعة المؤسسات التى تقوم بتلك الممارسة. ربما تطور دور الطرف الثالث من مجرد المساعى الحميدة good offices أو التيسير facilitation إلى الوساطة mediation ما يعنى تأمين المصالح المصرية فى هذه التسوية.
●●●
●●جاء النفى الرسمى الصادر عن رئاسة الجمهورية لشائعة تفويض رئيس الجمهورية للقائد العام للقوات المسلحة بإعلان التعبئة العامة ليفصل بين التحرك الدبلوماسى والإعلامى النشط من جهة وبين التورط العسكرى من جهة أخرى، لا سيما أن الخبرة التاريخية تشير إلى أن الثورات والانقلابات العسكرية قد تكون إحدى نتائج حرب (كالثورتين البلشفية والألمانية اللتين اندلعتا إبان الحرب العالمية الأولى، وثورة يوليو 1952 التى كانت إحدى دوافعها حرب 1948) أو أن تكون أحد أسباب حرب (كالثورة الفرنسية التى كانت ضمن أسباب الحروب النابوليونية، وثورة يوليو 1952 التى أدى مسارها إلى حرب السويس عام 1956، والثورة الإيرانية التى أعقبتها حرب الخليج الأولى 1980 1988). كما أن التحرك العسكرى غير المدروس فى ظل مرحلة انتقالية قد يعود بالعسكريين بقوة إلى واجهة المشهد السياسى، وهو ما لا يتمناه شعب بالكاد تخلص بعد ثورة مدنية من حكم عسكرى استمر قرابة الستة عقود. وبوجه عام، يستبعد وقوع حرب مع إسرائيل فى مرحلة ما بعد ثورة يناير 2011 بالنظر إلى ما أسلفناه من غياب التغير الراديكالى فى السياسة الخارجية المصرية؛ بالنظر إلى أن الثورة المصرية بالأساس اجتماعية غير مؤدلجة.
●● لم تخرج التظاهرات المساندة لغزة فى 2012 بذات الكثافة التى خرجت بها فى 2009 والتى بدورها لم تضاه التظاهرات التى واكبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000؛ ولعل مرد ذلك تطور الأداء الرسمى المصرى، ويضاف إلى ذلك عامل مستجد وهو عبثية تواجد تيار ما فى السلطة والمعارضة فى ذات الوقت.
●●●
●● حصلت حماس على اعتراف واقعى، سواء من لدن الدول العربية التى أوفدت وزراء خارجيتها إلى غزة فى 20 نوفمبر الحالى، أو من قبل إسرائيل التى عقدت الهدنة مع حماس، أو من جانب الدول التى باركت تلك الهدنة وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة. غير أن ذلك الاعتراف الواقعى بحماس قد يمهد لاجتراح مقاربة جديدة للتسوية تقوم على حل «الثلاث دول»، بما يصب بالتأكيد فى غير صالح القضية الفلسطينية، خصوصا مع التوجه الفلسطينى هذا الشهر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على صفة دولة غير عضو.
سرعان ما تمت ترجمة الانتصار السياسى المصرى داخليا فى الإعلان الدستورى الذى صدر متزامنا مع دخول الهدنة حيز النفاذ، والذى أعاد المحاكمات فى قضايا قتل وإصابة الثوار والشروع فى ذلك، وأطاح بالنائب العام، وحصن كل ما يصدر عن رئيس الجمهورية منذ تسليم السلطة إلى المدنيين وحتى انتخاب مجلس الشعب الجديد ضد الطعن عليه أمام أية جهة، كما حصن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية ضد الحل.
تبقى الهدنة كما كانت فى 2009 عرضة للخرق من أى من طرفيها، ما ينذر بتكرار الأزمة، ما لم يتم التوصل إلى تسوية شاملة للصراع العربى الإسرائيلى.