قبل وصول الرئيس المخلوع حسنى مبارك إلى الحكم، فى عام 1981، كانت مساحة بحيرة المنزلة، إحدى أكبر مصادر الثروة السمكية فى مصر «سابقا»، تتجاوز ال175 ألف فدان، لكنها تقلصت حتى وصلت فى نهاية عهده إلى 90 ألفا فقط، بعدما غض نظامه البصر عن تعديات البلطجية عليها، طوال 30 عاما، متجاهلا الاستغاثات المتلاحقة مما يقرب من 25 ألف صياد، يقتاتون على البحيرة، لإنقاذهم من تزاوج البلطجية ورجال الأعمال، الذى حولهم إلى «مافيا». تقع بحيرة المنزلة فى الركن الشمالى الشرقى من دلتا نهر النيل، وهى تربط 4 محافظات، هى الدقهلية والشرقية ودمياط وبورسعيد، ويحدها من الشمال، البحر المتوسط، ومن الشرق قناة السويس، ورغم الأهمية الاستراتيجية للبحيرة، سواء من حيث الموقع، أو بما تساهم فيه من نصيب فى «الثروة السمكية»، فإن تنميتها ظلت مهملة لسنوات طويلة، حتى احتلها «البلطجية»، وأقاموا فيها دولتهم المستقلة، التى يفرضون فيها «الإتاوات»، ويتحكمون فى رزق آلاف الأسر، باستخدام لنشات سريعة مسلحة، تحمل اسم «الطيار».
وأخيرا جاءت الحملة التى تشنها الداخلية لتظهير البحيرة، كمحاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البحيرة، التى تحولت بفضل موقعها بين البحر المتوسط وقناة السويس، وربطها لأربع محافظات، إلى نقطة لتهريب الأسلحة من البحر، مثلما كانت خلال العدوان الثلاثى على مصر، فى عام 1956 منفذا لتهريب الأسلحة إلى «الفدائيين» فى مدينة بورسعيد.
استغل البلطجية اللنشات السريعة التى بحوزتهم، والتى تصل قوتها إلى 115 حصانا، فى تهريب الأسلحة القادمة من الأراضى الليبية عبر البحر المتوسط، إلى داخل البلاد، كما قاموا بنقل الأسلحة داخل المحافظات والمدن، وأنشأوا مدارس خاصة لتعليم البلطجة والسرقة تحت ستار البحيرة، كما أنشأوا مصانع «بير سلم» لإنتاج الأسلحة المحلية، داخل منازلهم المحاطة بالغاب، والأراضى الزراعية، والمزارع السمكية، والتى لا يعرف دروبها سوى سكانها، حيث مهدوا طرقا ترابية داخل البحيرة، يمكن للسيارات السير عليها.
قبل أن تبدأ الحملة الأخيرة لتطهير البحيرة، كانت مقسمة إلى مناطق نفوذ لعدد من العصابات المسلحة، أشهرها عصابات «ابن سلام» و«العجايبة» و«معابد» و«الحمرا» و«الجنكة» و«الجحر» و«قعر البحر» و«المحاجر» و«لجان» و«الجرابعة»، وهى عصابات وصل نفوذها إلى حد تمكنها من إعادة بناء نفسها ومنشآتها، عقب كل حملة أمنية على البحيرة.
تنتج بحيرة المنزلة وحدها نحو 48% من الإنتاج السمكى لمصر، بمقدار 57 ألف طن سنويا، ويبلغ عدد المراكب المرخصة التى تعمل فى البحيرة 6785 مركبا، بالإضافة إلى ضعفها من المراكب غير المرخصة، فيما يصل عدد الصيادين المرخص لهم بالصيد، إلى 16 ألفا، من مناطق الجمالية والنسايمة والشبول، وجميعهم كان مصدر رزقهم الوحيد هو «أسماك» البحيرة، قبل أن تسقط تحت احتلال البلطجية وأصحاب النفوذ، الذين تمكنوا بفضل أسلحتهم الآلية، من استقطاع 70 ألف فدان، مجبرين أعدادا كبيرة من الصيادين على الهروب إلى السويس، فيما قرر آخرون الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
تحولت «المنزلة» إلى صداع مزمن فى رأس المسئولين بمحافظة بورسعيد، بعدما أصبحت وكرا للخارجين عن القانون والبلطجية، وعصابات الخطف والترويع القادمة من بعض قرى الدقهلية، والتى كانت وراء العديد من وقائع السرقة والاختطاف المتوالية، ورغم ذلك ظلت البحيرة بعيدة عن السيطرة الأمنية، أو بوصف أكثر دقة، فى حالة «انفلات أمنى مزمن»، قبل الثورة.
ورغم تقلص مساحة البحيرة لأقل من الثلث، بعد إقامة الطريق الدائرى فى وسطها، وإنشاء المزارع السمكية فى القطاع البحرى منها، بجانب مشروعات أخرى تابعة لوزارة البترول، إلا أن الحملات الأمنية المتعاقبة، ظلت عاجزة عن ملاحقة الهاربين والبلطجية فى مياهها أو جزرها الصغيرة المجهولة، المعروفة باسم «المراحات»، والتى يجيدون دائما الفرار من الشرطة إليها، والاحتفاظ بغنائم أعمالهم الاجرامية من مسروقات أو بشر مخطوفين.
وتسكن أخطر عصابات البحيرة منطقة «الجرابعة»، وهى تضم أعدادا كبيرة من الهاربين من السجون عقب الثورة، حيث وجد فيها البلطجية مكانا آمنا بعيدا عن عيون الشرطة، فعقدوا اتفاقات للتعايش مع بلطجية البحيرة القدامى، كما زادت عملياتهم، وأصبحت أكثر تنظيما، فيما كبرت مساحات التعديات على البحيرة، التى استخدمها السكان الجدد فى بناء منازل آمنة لهم، ليعيشوا فيها، ويحمونها باستخدام مدافع الجرانوف، وقذائف ال«آر بى جى»، والرشاشات الآلية الخفيفة.
ومن قرى النسايمة والمطرية والعصافرة، يشن البلطجية هجماتهم المسلحة ليلا على الصيادين، مستغلين اللنشات السريعة فى الهروب بسرعة بعد تنفيذ عملياتهم، ويستخدمون فى الغالب الصيادين الفرادى، مفضلين الابتعاد عن التجمعات.
وتعتبر منطقة الجميل، الفاصلة بين البحيرة والبحر المتوسط، أحد معابر دخول السلاح من خلال الكوبرى الحدودى الفاصل بينهما، والذى يستخدم ايضا فى تهريب السولار المدعم إلى السفن ومراكب الصيد، وفى السبعينيات من القرن الماضى، كانت توجد نقطة عسكرية داخل تل ابن سلام، وهو ما مكن الدولة من السيطرة على البحيرة وقتها.
وعلى أحد جوانب البحيرة، وتحديدا فى منطقة «القابوطى» التابعة لمحافظة بورسعيد، واصل عدد كبير من قيادات الحزب الوطنى «المنحل»، والقيادات التنفيذية المرتبطة بالنظام السابق فى المحافظة، فرض سطوتهم على نحو 8 آلاف صياد، يعيشون تحت رحمة «لقمة العيش»، وتهديد السلاح، خاصة بعد ثورة 25 يناير، التى لم تتمكن من «قصقصة» نفوذ رجال النظام السابق، خاصة مع استفحال ظاهرة العصابات المسلحة المرتبطة بهم، بصورة غير مسبوقة، سواء داخل مياه منطقة الجزر أو «المراحات»، فى ظل غياب أمنى تام لشرطة المسطحات المائية.
وخلال الفترة الماضية، أصبحت قرية «الشبول» التابعة لمركز المطرية فى الدقهلية، مركزا لنشاط جديد للتشكيلات العصابية، حيث تخصصت فى خطف المواطنين لمطالبة الأهالى بفدية لإطلاق سراحهم، وبلغ عدد المختطفين خلال الأشهر القليلة الماضية نحو 29 شخصا، بينهم رجال أعمال أو أقارب لهم، حسبما أفاد معاون مباحث قسم شرطة الضواحى، الرائد محمد صبحى، الذى أوضح أن المفاوضات مع المجرمين لإطلاق سراح المختطفين تتم بمعرفة وإشراف مدير أمن بورسعيد، اللواء سامح رضوان.
وشهدت البحيرة من جهة بورسعيد، نشاطا مكثفا من جانب مافيا تهريب حاويات البضائع دون سداد الرسوم الجمركية عليها، وذلك عن طريق كوبرى قناة الاتصال بمنطقة القابوطى جنوب بورسعيد، والسلك الشائك فى منطقة الخندق بحى الزهور، المطل مباشرة على أراضى مياه البحيرة، وهو ما أدى إلى حدوث صدام ومعارك بين العصابات الإجرامية، مما دفع الأهالى إلى مناشدة المحافظ، سرعة التدخل للحفاظ على الثروة السمكية، وحماية أرزاق وقوت الصيادين.
القبض على 36 مسجل خطر فى اليوم الرابع لتطهير بحيرة المنزلة