من الأطراف التى أعلنت انشقاقها باكرا على القذافى فى ليبيا هى الصحافة الليبية فكما قام الشباب بحمل السلاح للنضال ضد القذافى قام بعض منهم بحمل القلم للنضال ضده أيضا، فمن الأيام الأولى للثورة تداعى بعض الشباب لإنشاء مقار صغيرة بإمكانات بسيطة وعملوا على تأسيس بعض الصحف لنشر الحقيقة وكتابة الوقائع كما هى، والغريب فى الأمر ان كثيرا من هؤلاء الشباب لم يدرس الأعلام قط ولم يشتغل به قبل الأحداث. فقد اتخذ عدد كبير من الشباب مقرا واحدا وكانوا يعملون جنبا إلى جنب يتشاركون فيه فى كل شىء فى مظهر حضارى لم يسبق له مثيل، وأقاموا الأساس للصحف الشبابية فى ليبيا، وتنوعت مواضيعها وأسماؤها أيضا والتى دلت فى بعض منها على التحرر الليبى من سلطان طاغية مارس التعتيم والظلم الإعلامى ان جاز التعبير كما مارس الظلم الاجتماعى، واستطاع هؤلاء الشباب وبمجهود ذاتى وفى فترة بسيطة ان يعيدوا الحياة للإعلام فى ليبيا وبرعوا فى ذلك، غير ان هذا النجاح أصيب كما أصيب الإعلام العربى بعد ربيعه المزدهر، بأمراض الجينات الوراثية.
ونتيجة للاندفاع والحماس الثورى لدى الشباب أحيانا، وحبا فى إنجاح الثورة ودعمها أحيانا أخرى، مارس الإعلام مجددا ما قام من اجل إلغائه، وهو المبالغة فى النجاحات والمكتسبات والتغاضى عن ذكر ومناقشة الإشكاليات بشفافية ووضوح، أو العرض الصحيح للإحصائيات والأرقام، وبمعنى آخر التعتيم على بعض أخطاء القائمين على الثورة، ولا أقول الثورة حتى لا اتهم إنى ضدها.
ولا اعنى بذلك كل الصحف أو المجلات ولا اعنى بذلك ليبيا فقط، وإنما هذه الظاهرة هى حصر على بعض هذه الصحف التى تعتمد اسلوب المبالغة فى كل شىء سواء النقد أو التأييد، ذلك ان النقد المبالغ فية للثوار والمجلس الانتقالى خلق بذور للفتنة والشائعات التى كادت تعصف بالثورة فى ليبيا، كما ان المبالغة فى تضخيم النجاحات والنصر، سببت حالة من الإحباط والخوف بعدم الوصول إلى النهاية والخلاصة نتيجة للتأخر فى تحرير سرت وبنى وليد التى نسمع ونقرأ منذ شهر تقريبا ان يومين يفصلانا عن تحريرهما.
وهذه المبالغة بالتأكيد تعود لإرث قديم ورثناه نحن العرب من حكامنا الذين كانوا يحبون التضخيم من انجازاتهم وأعمالهم، فنحن اعتدنا اسلوبا إعلاميا يقوم على فكرة «ان اى شىء تريده ان يصدق لابد ان تعطيه حجما اكبر من حجمه حتى يستحيل رفضه فهذا ما ورثناه ولا يزال يسرى فينا، وعليه فإن الصحافة لا تحتاج للانشقاق على القذافى فقط لتقيم أسس الإعلام الحر والنزيهة، وإنما تحتاج لاجتثاث القذافى «فكر وممارسة» من أعماق أعماقها كى تنهض سليمة وتدعم البناء الديمقراطى الليبى، ولايزال هناك أمل ان تنهض الصحافة قويه معافاة ولكننا نحتاج لجراح ماهر يقوم بالمهمة.