فى خضم الصراع السياسى المحتدم الآن فى البلاد، لا سيما فى أعقاب القرار الجمهورى رقم 11 لعام 2012 بدعوة مجلس الشعب للانعقاد، لا ينبغى إغفال حقيقة أن هذا الصراع هو العنوان الواسع الذى يندرج تحته السؤال الكبير حول وضع المؤسسة العسكرية فى النظام السياسى الجديد، والذى تبدو الكثير من الصياغات التوفيقية التى يسعى العديد إلى اجتراحها بشأنه متناقضة مع ما وصل إليه العالم المتمدن، وذلك على الرغم مما يحظى به الجيش المصرى من مكانة عزيزة لدى الشعب المصرى. فمع تطور طبيعة الجيوش من نظام المجاهدين Mujahedin فى العالم الإسلامى والفرسان Knights فى أوروبا مرورا بنظام المرتزقة Mercenaries إلى نظام الجيش الدائم Permanent army فى أعقاب الثورة الفرنسية، تفتقت عبقرية نابليون بونابرت عن سن نظام الخدمة العسكرية الإلزامية المعروف على نطاق واسع بالتجنيد من خلال ربطه بالحقوق السياسية التى نادت بها الثورة الفرنسية، بمعنى أن مباشرة الحقوق السياسية تقتضى أداء الخدمة العسكرية، ومن ثم فأداء الخدمة العسكرية يؤكد مباشرة الحقوق السياسية. وقد أدى تطور هذه العلاقة إلى خضوع المؤسسة العسكرية المعينة من الحاكم إلى المؤسسة السياسية المنتخبة من الشعب، فيما يعرف بالسيادة الديمقراطية المدنية على المؤسسة العسكرية Civilian Democratic Control of Military، وهى معادلة غاية فى المنطقية، لسببين مبدئيين: الأول: أن الأصل هو الحياة المدنية، والاستثناء هو الحياة العسكرية، ومن ثم لا يجوز سيادة الاستثناء على القاعدة وإنما العكس. فالحياة المدنية تعترف بالديمقراطية والتعددية، فى حين أن الحياة العسكرية لا تحتمل سوى الهيراركية والانضباط بحكم طبيعة مهامها، وبالتالى لا يعقل تعميم هذه الذهنية فى إدارة الحياة المدنية، وهو ما يقتضى رقابة السياسيين على المؤسسة العسكرية لا سيطرة العسكريين على الحياة السياسية.
الثاني: أن السلطة المنتخبة تعبر عن إرادة الشعب فى إدارة جميع مؤسساته، فى حين أن أية هيئة معينة مهما علا شأنها لا تعبر إلا عن مصلحة من قام بتعيين هذه الهيئة. ومن ثم فلا ينبغى أن تسود الهيئة المعينة على الهيئة المنتخبة.
***
هذا فيما يختص بالإطار العام، أما فيما يتصل تحديدا بالمؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش، والتى يشرف على قطاع كبير منها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، فإن هذه المؤسسات تقوم على أكتاف المجندين من أبناء الشعب المصرى، وعلى أراض مملوكة للشعب المصرى. وبناء عليه، يتعين خضوع المؤسسات الاقتصادية التابعة للمؤسسة العسكرية للسيادة الديمقراطية المدنية، من خلال نقل التبعية القانونية لهذه المؤسسات إلى وزارة الدفاع وخضوع موازنة الوزارة والقوات المسلحة لرقابة البرلمان، وهنا ينبغى إزالة اللبس الإعلامى المتعمد بين الأسرار العسكرية التى لن يقبل أحد فى الجماعة الوطنية بإفشائها على المشاع، وبين موازنة قطاع هام من قطاعات الدولة ينبغى أن تخضع لرقابة الشعب من خلال البرلمان على نحو ما هو متبع فى كافة الدول المتمدنة، ولم يؤد ذلك بالضرورة إلى تعريض أمنها القومى للخطر.
باختصار إن تجنيد المصريين فى جيشهم الوطنى الذى نحترمه جميعا حتمية تقتضى ضمن ما تقتضى رقابة البرلمان على هذا الجيش، وهو ما يتسق مع المنطق السياسى والتجربة التاريخية اللذين انتهيا إلى حتمية السيادة الديمقراطية المدنية على المؤسسة العسكرية على نحو واضح لا غموض فيه بما لا يحتمل صياغات توفيقية، غير أن المعضلة الحقيقية تكمن فى قبول هذه السيادة، بما يمثل التحول من جمهورية يوليو إلى جمهورية يناير. ويحضرنى فى هذا السياق مثالان يعبران عن هذه المعضلة، أولهما ذلك المنولوج الذى ساقه غسان شربل فى افتتاحية صحيفة الحياة الللندنية يوم الاثنين 14 فبراير 2011 تحت عنوان «ما أكذب التقارير!» معبرا عما اعتقده يعتمل فى عقل الرئيس المخلوع مبارك بعدما غادر السلطة: «من هو وائل غنيم هذا؟ أين كان فى حرب الاستنزاف؟ ماذا فعل فى حرب أكتوبر؟ ماذا كان دوره فى العبور؟»، أما الآخر، فهو تلك المقارنة العلنية التى عقدها الفريق أحمد شفيق بينه وبين الروائى العالمى الدكتور علاء الأسوانى خلال برنامج حوارى شهير، قائلا: «يا علاء لا تلبس ثوب الوطنية وأنت نائم فى بيتك بينما أنا حاربت وقتلت وقُتِلت». وبمقارنة هذين المثالين بوصول المحامى الأمريكى ذى الأصل الكينى باراك أوباما إلى سدة الحكم فى الولاياتالمتحدة ومن ثم توليه منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، يتجلى الفارق بين الممارسة الديمقراطية للأمم المتمدنة والنظم الجمهورية ذات الخلفيات العسكرية التى تمخضت عنها الانقلابات العسكرية فى العالم العربى خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضى.
وبالنظر إلى أن التوافق على إجابة لهذا السؤال الكبير حول دور المؤسسة العسكرية فى النظام السياسى للجمهورية الثانية قد يستغرق وقتا ليس بالقصير، فإن المواءمة الوطنية تقتضى الحفاظ على وضع القوات المسلحة كما كان فى الفصل السابع من الباب الخامس بدستور 1971، والذى يحتوى عبارات مقتضبة لا تثير كثيرا من الجدل حولها بقدر ما تتطلب تفصيلا لمضمونها، وهو ما يمكن إرجاؤه إلى حين، والتركيز فى المرحلة الراهنة على إتمام كتابة الدستور الجديد من خلال جمعية تأسيسية غير معينة من أية جهة.