قدرة أى كيان اقتصادى على الاقتراض مرتبطة بثقة الدائنين فى استطاعة المدين رد هذا الدين. هذا هو القانون الذى يحكم التمويل والإقراض فى الاقتصاد الرأسمالى. ويسرى على كل الكيانات الاقتصادية حتى الحكومات. فالحكومة جزء لا يتجزأ من نسيج الاقتصاد, وتجرى عليها نفس القوانين الاقتصادية، التى تحكم كل الكيانات الاقتصادية الأخرى. ولكن الحكومة لها وضع خاص بعض الشىء مقارنة بالقطاع الخاص يجعلها أكثر قدرة على الاقتراض. الميزة التى تميز الحكومة، هى قدرتها على تحصيل الضرائب من المواطنين بقوة القانون ورفع معدل الضرائب إذا دعت الحاجة إلى ذلك (كالحاجة إلى رد الديون وفوائدها)، وهذا مصرد ثقة كبير للدائنين. فاحتمالات إفلاس الحكومة أقل بكثير من احتمالات إفلاس أى شركة خاصة. فدخل الحكومة، الضرائب، مضمون أكثر من أرباح أى شركة خاصة. ساعدت معدلات النمو المرتفعة فى آخر عشر سنين فى رفع مستوى ديون القطاع الخاص. فطالما الكل يتوقع أن تستمر الأرباح فى النمو عاما بعد عام، لا يوجد مانع أبدا من الاقتراض ما دام رد الدين مضمون بالأرباح المستقبلية المتوقعة. ولكن رياح الاقتصاد العالمى لا تأتى دائما بما تشتهى نفوس أصحاب رءوس الأموال، فدخل الاقتصاد العالمى فى ركود مع بدايات عام 2008، ولم يخرج منه تماما حتى الآن. عندما أدرك المستثمرون بأن ديون القطاع الخاص الأمريكى (ومعظم الدول المتقدمة اقتصاديا الأخرى كالمملكة المتحدة وألمانيا) قد تجاوزت قدرته على رد الدين. وأن معدلات النمو المرتفعة، التى كانت المبرر الرئيسى لإصدار كل هذه الديون أصلا، لن تتحقق وأصبح الإفلاس هو الحل الوحيد للعديد من الشركات والمؤسسات المالية فى ظل عجزها عن رد الديون. سارعت الحكومة بالتدخل لإنقاذ الشركات من الإفلاس وإعادة الاقتصاد إلى معدلات نمو مرتفعة. انتهجت الحكومة الأمريكية سياستين فى هذا الشأن، وكلاهما ساهمتا فى رفع الدين الحكومى بشكل مباشر. أول هذه السياسات أن أخذت الحكومة على عاتقها حمل هذه الديون الفائضة لتحمى أكبر مؤسسات القطاع الخاص من الإفلاس، فخرجت الديون من دفاتر البنوك والشركات إلى دفتر الحكومة وأضيفت إلى إجمالى الدين الحكومى. ثانى هذه السياسات تمثل فى رفع معدل الإنفاق الحكومى وعجز الميزانية كمحاولة للمحافظة عليه أو حتى زيادة مستوى إجمالى الطلب فى الاقتصاد. ففى فترات الركود الاقتصادى لا يسع الحكومة إلا أن تعتمد على ثقة المستثمرين فى الحكومة، لتستدين وتنفق ما تستدينه لترفع مستوى الطلب المحلى على أمل أن تدفع الاقتصاد إلى نمو وتفادى مزيد من الركود. كل هذا، دفع الدين الحكومى إلى مستويات رأى المستثمرين أنها غير آمنة وتتجاوز قدرة الحكومات على رد الدين. فالحكومة ليست كائنا أسطوريا يستطيع حمل أى قدر من الدين بدون أى حد. وإذا كانت الحكومات استطاعت التقليل من الآثار السلبية للركود الاقتصادى الكبير فى 2008 عن طريق أخذ فائض الدين على عاتقها، فقد جاء يوم الحساب. فمستوى الديون فى الاقتصاد العالمى ككل أعلى مما يعتقد المستثمرين أنه الحد المعقول للديون وبذات إذا أخذنا فى الحسبان التوقعات السلبية لمستقبل النمو الاقتصادى. فى اليونان وبريطانيا طبقت الحكومة سياسات التقشف على حساب الخدمات الاجتماعية والدعم للشرائح الأقل دخلا فى المجتمع ورد الشباب هناك بلغة ليست غريبة على تاريخ الرأسمالية. أما فى أمريكا، فعندما حاول أوباما رفع الضرائب مع تطبيق سياسات التقشف كحزمة متوازنة بعض الشىء، كاد الجمهوريون يجعلون الحكومة تشهر إفلاسها وتغلق أبوابها اعتراضا على رفع الضرائب على أقل من اثنين فى المئة من الأسرار، الذين يمثلون أغنى الأغنياء فى أمريكا. فكان هذا الاختلاف بين أكبر قوتين سياسيتين فى أمريكا، والذى ترجم من قبل مؤسسات تقييم الديون على أنه عجز سياسى فى اتخاذ قرارات حازمة لتقليل عجز الميزانية الحكومية، السبب فى تراجع التقييم الائتمانى لديون الحكومة الأمريكية. فالمشكلة الحقيقية إذا مشكلة نمو. هناك تباطؤ مزمن فى النمو الاقتصادى منذ عام 2008، وكل محاولات الحكومات، اتضح أنها كانت مسكنات قصيرة الأمد فشلت فى حل مشكلات الاقتصاد الهيكلية وتركت الحكومة فى موقف لا تحسد عليه. فهى الآن استنفدت قدرتها على الاقتراض وبحاجة إلى أن تبدأ فى رد الديون، فإما أن ترفع الضرائب أو ترشد الإنفاق (ما يسمى بسياسات التقشف أحيانا)، وكلا الحلين مر. رفع الضرائب من شأنه أن يغضب أصحاب رأس المال لأنه يقتطع من أرباحهم، وترشيد الإنفاق يأتى على حساب القطاعات الأقل دخلا فى المجتمع، والتى تعانى أيضا من فشل الاقتصاد فى استيعابهم بشكل منتج، كريم وشامل.