عندما يفوز التيار الإسلامى بنحو ثلثى المقاعد قى انتخابات «شبه نزيهة» فهذا يدل على ثقة الشعب فى هذا التيار، لهم كل التهئنة.. ولنا حق الدراسة والتحليل حتى نستخلص الدروس.
أن يفوز تيار واحد كان يعمل تحت الأرض فى العهد السابق بثلثى المقاعد فهذا نادر الوجود فى البلدان الديمقراطية وعندما يكون الثلث الباقى موزعا على قوى سياسية كثيرة، فالمؤكد أن النتيحة الوحيدة هى أن السياسة والقوى السياسية فى هذا البلد كانت قد ماتت و«شبعت موت».
خطيئة مبارك الكبرى أنه وباسم استقرار القبور قتل الحياة السياسية تماما عبر خطة ممنهجة.
رأينا لجنة الأحزاب فى عهد صفوت الشريف هى الخصم والحكم، رفضت الأحزاب الشعبية، ولذلك رأينا مؤسسة القضاء تقوم بدور سياسى، وهى التى سمحت لغالبية الأحزاب الموجودة بالظهور، لكن أجهزة الحكومة تمكنت عبر سياسة صارمة من محاصرة الأحزاب الفاعلة داخل مقارها، ثم دجنتها أو استأنستها «وزهقت محترميها فى عيشتهم» وفى النهاية حدث زواج غير مشروع بين الحكومة وقادة هذه الأحزاب نتج عنه أولاد سفاح عاشوا بجوار «الأبناء الكرتونيين» الذين أنجبتهم لجنة صفوت الشريف ل«الغلوشة» على المشهد السياسى.
التيارات الإسلامية التى انفردت بامتلاك الشارع نتيجة لكل ذلك دفعت ثمنا فادحا نظير استمرار وجودها فى الشارع، وعندما «جد الجد» وقامت الثورة وشهدنا انتخابات معقولة تبخرت معظم الأحزاب ولم نجد أمامنا سوى الأحزاب الدينية.
حارب نظام مبارك أى بادرة أمل فى وجود حياة سياسية. ولم يكتف بقتل الأحزاب، بل قتل النقابات أيضا، ثم اخترق معظم منظمات المجتمع المدنى، وتمكن للأسف من إفساد معظمها، عبر غض الطرف عن فضائح التمويل المشبوه أو محاربتها ومطاردة ناشطيها الذين حاربوا فعلا من أجل الحريات وحقوق الإنسان وهم قلة.
نظام مبارك ارتكب الجريمة عامدا متعمدا، لأنه لو سمح بوجود حياة سياسية حقيقية تشمل حريات وشفافية وتداول سلطة ما كان يمكن لنظامه أن يستمر، وما كان يمكن لفساده أن يقع. لكن المفارقة أنه لم يستطع الإدراك أنه هو الذى دفع الثمن الفورى للجريمة، وأن المجتمع بأكمله يدفع الثمن الأفدح الآن وفى المستقبل.
الكلمات السابقة ليست قدحا فى التيار الدينى، وسمعت من بعض قادته أنهم لا يشعرون بسعادة غامرة كما يظن كثيرون على هذا الاكتساح الانتخابى لأنهم يعتبرونه مهمة ثقيلة وجاء فى غير الوقت الذى يحبون ما قد يضعهم فى اختبار شعبى صعب.
دعونا لا نبكى على اللبن المسكوب، وعلينا ان نسأل: كيف نعيد بناء ما دمره مبارك ونظامه.
البداية عبر إشاعة الحريات وحق الجميع فى إنشاء الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدنى والمؤسسات السياسية الفاعلة فى إطار القانون، أما الجانب العملى فهو أن تنخرط الأحزاب فى مهمة عمل شاقة لبناء نفسها شعبيا والنزول إلى الناس فى المدن والقرى، وتجربة بعض الرموز فى الانتخابات الفردية تقول إن الأمر قد يكون صعبا، لكنه ليس مستحيلا.
على المجلس العسكرى وعلى كل القوى خصوصا ذات المرجعية الدينية أن تدرك أن الديمقراطية وتداول السلطة أمر مرهق ومكلف، لكنه فى النهاية مثالى جدا مقارنة بالثمن الفادح لتأميم السياسة وقتلها.
وعلى من لا يصدق تأمل المشهد التالى: مبارك ورموز نظامه فى السجون، والتيار الدينى يقترب من حصد الأغلبية وبينهما مجتمع تائه لا يعرف ماذا يفعل ولا يعرف ماذا يخبى له الغد.