تغيرات غير مسبوقة ومتلاحقة شهدها ولا يزال يشهدها الوطن / العالم العربى منذ العام المنصرم فى عدد من أقطاره وبقاعه. ففى وسط وغرب الوطن العربى سقطت ثلاثة أنظمة عربية.. هوى نظامان بعد ضغوط شعبية سلمية ثم تبعهما تفكك وانهيار نظام ثالث إثر تدخل عسكرى دولى ومعارضة داخلية مسلحة. وفى شرق العالم العربى وخليجه تنحى رأس نظام عربى رابع بعد مبادرات إقليمية مدعومة دوليا، وشهد نظام خامس مساعدات عسكرية إقليمية لمساعدته على الاستمرار. وفى قلب العالم العربى صار نظام سادس يواجه معارضة اشتبك فيها السلمى والمسلح واختلطت فيها الأهداف.
أيضا وقع تغير جوهرى على شكل نظامين عربيين آخرين كان استحقاقهما للمصادفة فى عام 2011 أيضا الأول هو انفصال جنوب السودان عن محيطه العربى فى منتصف العام والثانى هو إعلان الانسحاب الأمريكى من العراق بنهاية العام. وبخلاف هذه الأقطار الثمانية، فإن عواصم أخرى باتت مرشحة لأن تشهد هذا العام عواصف سياسية عاتية.
رفعت إذن العديد من المجتمعات العربية الغاضبة مطالب الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والإصلاح المؤسسى معلنة حاجتها إلى صيغ جديدة تسمح لها بالتعبير عن طموحاتها البسيطة وتطلعاتها الكبرى وتأذن وذلك هو الأهم بتحقيقها. وهى مطالب ظلت تكبر ككرة ثلج على مدى العقدين الماضيين بفعل عوامل ومسببات داخلية وخارجية، حتى صارت فى ظل تفشى أزمات الحكم الداخلية والإحباطات الحضارية العربية الكبرى مطالب ثورية فحواها تغيير أصول وشكل الحكم وصياغة عقد اجتماعى جديد.. مطالب تسقط دون التجاوب معها أنظمة عربية وتتهدد دول بالانهيار.
ويشير تشابه أشكال مطالب التغيير وفحواها فى نحو نصف أعضاء الجامعة العربية، والأعمار الشابة للمطالبين بها، والوسائل الإلكترونية الحديثة المستخدمة لتحقيقها، والارتباطات الدولية والإقليمية المصاحبة لها، وعمليات الشحذ النفسى المصاحبة لها، والصبغة الدينية الغالبة على الأنظمة المتولدة عنها.. كل هذا يشير إلى أن ما يتشكل من حراك سياسى عربى عام هو بصدد إنشاء مجموعة من القيم السياسية الخاصة به وأنه سيتسبب فى تغيرات جذرية على مجمل النظام الإقليمى العربى خلال السنوات القليلة المقبلة.
●●●
ولعله من الملائم عند استشراف ملامح التغيرات التى ستطرأ على نظامنا الإقليمى، وقيمه المشتركة، وأهدافه الكبرى، والفاعلين الرئيسيين فيه، ووسائله، أن يتم الالتفات إلى جامعة الدول العربية وما إن كانت ستظل قادرة على تمثيل النظام الإقليمى العربى بتغيراته الجديدة.
أغلب الظن أن استمرار المؤسسة لمدة قاربت على السبعين عاما بالرغم من الطامات التاريخية الكبرى التى واجهها العالم العربى، ليس معيارا دالا على نجاح المنظمة بل تأكيد جلى على أن العروبة كحقيقة ثقافية وهوية أصيلة غير متناقضة مع غيرها من الثقافات تحتاج إلى تنظيم مؤسسى يعبر عن تطلعات الشعوب المنتمية لها. هذا ويجب إهمال ما ذهبت إليه مجموعة غير قليلة من المحللين وصناع القرار العرب بأن استمرار الجامعة العربية على ضعفها كان «ستارا» للأنظمة الحاكمة للتهرب من مسئوليات قومية لم تخترها بل حتمتها مجموعة القيم القائم عليها النظام الإقليمى الحالى.. سواء تعلقت هذه المسئوليات بدعم أشكال المقاومة للاحتلال الإسرائيلى للأراض العربية فى فلسطين وسوريا ولبنان أو اتخاذ مواقف موحدة تجاه قضايا دولية حاسمة، أو دعم آليات التعاون العربى المشترك على المستوى الاقتصادى التنموى أو الاستثمارى.
بطبيعة الحال، مع موجة الإصلاحات المؤسسية التى تشهدها حاليا ومستقبلا مجموعة من الأقطار العربية، والتوجه نحو التعددية السياسية، وزيادة مشاركة المجتمعات المدنية، والمحاسبة والشفافية، لا يتصور أن يكتب النجاح لدور الجامعة العربية الضعيف سواء فى شكل «ستار»، أو فى شكل سكرتارية إدارية مناط بها أعداد اجتماعات دورية.. وسيصبح لزاما على المؤسسة القومية ان تعكس فى توجهاتها الحراك العربى العام بل وإن تعبر عنه.
فى لحظات التغيير الكبرى، تميل بعض العقول إلى حلول سهلة لإعادة إنتاج المؤسسات، خصوصا من خلال إنهاء عمل القديم منها، وفى حالة الجامعة العربية فان الجنوح نحو هذه الافكار السهلة أحيانا والمغرضة أحيانا اخرى لإنشاء بدائل إقليمية لهذه المؤسسة، وفى ظل حالة الرخاوة السياسية الراهنة واستمرار جريمة الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية والجولان السورى، بدعوى عدم قدرة التنظيم أو انتمائه إلى عصر سياسى أفل نجمه، سيكون بمثابة إعلان هزيمة غير مبررة للمشروع العربى ومجموعة القيم المكونة له، بل ولقدرات العقل العربى الجماعى، ونهاية مأساوية لتكتل ظل معبرا عن حقيقة تجانس ثقافى ولغوى وتاريخى لمجتمعات الوطن العالم العربى، حتى وإن لم ينجح عمله الجماعى لأسباب وعوامل سياسية داخلية وخارجية عميقة فى تحقيق الآمال المعقودة عليه.
فى السابع من أكتوبر عام 1944، اتفق قادة خمس دول عربية (هى مصر، سوريا، الأردن، العراق، لبنان) فى مدينة الإسكندرية على إنشاء منظمة تربط العرب ببعضهم البعض وجاء فى نص بروتوكول الإسكندرية أن إنشاء المنظمة جاء «استجابة للرأى العربى العام فى جميع الأقطار العربية»، واستجابة لهذا الرأى العام العربى نفسه الذى يتصور أنه لا يزال مؤمنا بضرورة تعزيز روابطه، والذى رفع شعارات الإصلاح فى نحو نصف الدول العربية الأعضاء إلى الآن، فقد آن أوان تقييم دور الجامعة العربية وإعادة اختراع هذا الدور لو تطلب الأمر كى تحقق ما قامت من أجله، من تعبير حقيقى عن تطلعاتها فى الإصلاح والمساهمة فى تقديم رؤى كلية للمشكلات المجتمعية العربية سواء المتجذرة منها أو الجديدة.
●●●
إن عودة العرب للمساهمة فى الحضارة الإنسانية ليس أمرا مفروشا بالورود.. وسيواجه عملهم الجماعى صعوبات كثيرة فى طليعتها استمرار الاحتلال الإسرائيلى حائطا مبنيا وسطهم مانعا لتلاقيهم ومذكرا لهم بعجزهم.. والتباعد بين طبيعة وأشكال النظم السياسية والاقتصادية العربية حتى مع وجود تحالفات بين بعضها حاليا.. وهما أمران يجب أخذهما فى الاعتبار عند التفكير فى تقوية دور الجامعة العربية.
إن تقييم العمل العربى المشترك وتنميته نال كثيرا من المناقشة المعمقة على مدى عمر الجامعة العربية، شارك فيها باحثون وسياسيون واقتصاديون بأوراق وأفكار وكتب، وخصصت اجتماعات وزارية وقمة اقتصادية لبحثه، ولم يسهم ذلك فى ارتقاء دور الجامعة إلى المستوى المأمول. ويظهر أن الإشكالية لا تكمن فقط فى قناعة الحكومات بقدرة التنظيمات الإقليمية والدولية على مساعدتها فى القيام ببعض أدوارها، بل أساسا بضعف الإرادة السياسية العربية، الفردية والجماعية.
ولا يتصور عاقل أن جهد إعادة اختراع دور حديث وأقوى للجامعة العربية يمكن أن يكون فقط مسئولية جهات رسمية هى ذاتها متهمة بالتقصير والتسبب فى ضعف المنظمة.. فالمسئولية هاهنا جماعية وتقتضى مشاركة مجموعات من العقول العربية فى المنظمات الأهلية والأحزاب والقطاع الخاص.. وتوفير الغطاء السياسى اللازم لإطلاق هذا الجهد والمساحة المادية والزمنية التى يستحقها علما بأن تقييم السياسة العامة التعليمية فى دولة عظمى استغرق وحده ثلاث سنوات ودون الاتفاق على الإجراءات العملية اللازمة لبدء خطة العمل التى تهدف إلى بحث كيفية تقوية دور الجامعة العربية المستقبلى، فى ضوء مستجدات العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين وليس سواه، فسنجد أنفسنا بصدد نظام إقليمى رخو ومستباح.. مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر.. وكوارث.