لستُ فى موقع الناصح أو من يملِكُ ناصيةَ الحكمةِ.. ولكن حينما يرى المرءُ أن الأوضاع فى بلاده صارت صراعا يطولُ أهلَه الأقربين وأن مشاهد دامية سبق أن عايشها فى أزماتٍ أخرى أصبحتْ عنوانا لوطنه.. يشتدُ أساه ويملؤهُ الرعبُ لمآلات العنف والعنف المضاد، ويجد أن أحاديث السياسة والتنظير صارت رفاهية وثرثرة فى مجتمع يتلظى بغياب القريب أو اختفاء الصديق أو هجرة الأهل.. ويشعر أن من واجبه أن يستصرخَ فى داخله كلَ سورى.. شاركَ أو لم يشارك فى مظاهرات الاعتراض على النظام أو نصرته.. كلَ قلبٍ سورى تمزقَ حزنا أمام جثمان مسجى أمامه، وكلَ قلب مات فى يومه ألفَ مرة رعبا على وطن مهدد بالضياع.. أن يستصرخَ كل من شعر بالغبن وأن استعادةَ حقِهِ المهضوم تفرضُ عليه التمترس وراءَ موقفهِ والانتقام ممن غرسوا فى قلبهِ الأحزان.. أن يستصرخَ ضميرَ هؤلاء، مسئولين ومعارضين وضميره معهم كى يتذكروا أن من يقف على الضفةِ الأخرى ليس إلا أخ وإن اختلفت طائفته أو دينه أو مذهبه السياسى، وأن الرصاصة الواحدة تقتلُ ألفَ نفسٍ ونفس، وأن لُبَّ الحضارةِ أن نعرف أن سُبُلَ بلوغ الحرية ممكنة بملايين الحلول.. ليس من بينها قتل أخٍ أو ابن. •••
أجدُنى أكتبُ إلى ابن وطنى حتى من لم يَتَسَنّ له إتقانُ الكتابةِ والقراءةِ الذى يعى أن بلادَه لم تترك جانبا منيرا من التاريخ إلا وأَطَلَّت منه.. إلى أستاذى فى المدرسةِ والجامعةِ الذى برهنَ على أن العاطفةَ والعقلَ يلتقيان رغمَ أنفِ من ينتقد رومانسيتنا السياسية.. إلى الفتاةِ السوريةِ التى تَغَنَّى العربُ بِها.. إلى هذا الشاب الذى يرمزُ الى العزةِ والإباءِ، وتكونُ الفصحى أجملَ حينما ينطقُ بها.. إلى الشعبِ الذى ما زالت جميعُ طوائفِه وأحزابِه تعتقدُ - دون مَنٍّ أو أذًى - أن دموعَ الفلسطينيين طاهرةٌ وتَصلُح للوضوءِ وأن تحريرَ فلسطين غايةُ الغايات.. إلى الشعبِ الذى كفكف دموعَ اللبنانيين والعراقيين حين بلواهم والتصقَ بمصرَ حتى بعد غَرسِ إسرائيلَ فى خاصرتيهما.. إلى الشعبِ الذى تُشَنِّفُ العربُ أذنيها بحديثه فى الشعر والتاريخ والفلسفة والقانون والجمال ومكافحة الاستبداد.. إلى من اخترعَ أجدادُه الأندلسَ قديما والعروبةَ حديثا.. مع ملايين هذا الشعبِ أصرخ عاليا: كفى صمتا على القتل وتشجيعا للانتقامِ.. كفى انحناء لوساوس شياطينَ صُنِعوا محليا وتهافتوا علينا من الخارج.. فلن ينتصرَ من قتلَ أخاه بل سنموتُ كِلانا.. فأمام الموت يصغرُ كلُ حديثٍ وأمامَ دماء أهل الوطن الواحد تنحنى جميعُ الجباه.
لا تَدَعوا أحدا يعلمكم مسالكَ السياسةِ أو حقائق التاريخ والجغرافيا.. فأنتُم أهلُها.. ولا ننسى أنه لا مَحَلَّ تحتَ شمس وطننا لمن يتصور أنه يستأثر بكامل وجه الحقيقة.. فالفسيفساءُ اختراعٌ وطنىٌ بامتياز توارثناه عن أجدادِنا ونُسَلِّمُه لأولادِنا.. وبالحوارِ وَحدَهُ نُفَصِّلُ حلولنا.. فألفُ ألفِ عَنانٍ لن يُقَدِّمَ حَلا جديدا لا يعلمهُ الصبيةُ فى حارات درعا والشام وحلب ودير الزور وحِمص وحماة واللاذقية والسويداء وإدلب.. نحتاجُ الآن مدينةً ما.. قريةً ما.. ضيعةً ما.. ومائدةً ما.. للحوار.. نحتاجُ عَدَمَ إضاعة الزمن.. إلى وقتٍ لن تَبْقَ لنا فيه أيادٍ سليمة نتصافح بها وعقول واعية نسطر بها طموحات مستقبلنا. كُثرٌ مَن يرون فينا قِطعَ شطرنج وساحات اقتتال لحروب يخشون قيامها بينَهم.. وما فشلت أمة فى كتابةِ مواثيق مستقبلها إلا ووَجَدَتْ نفسهَا تكتبُ خانعةً إملاءات الآخرين. وآن لأمتنا أن تصنعَ هذه المائدة..
•••
ما زال شعبُك يا وطنى ملاذا لما كان يسمى عروبة.. وسيظل اسمُك شاهدا على صناعةِ التاريخ.. فبِحَقِّ من شَطَرَ «جَبَلَ معلولة» نصفين للقديسة تقلا لينقذَها من طغيان ظالميها.. وبحقِ المرارةِ بِحَلْقِ هذا الشعبِ ضد من شطروا بلادَه عشيةَ الحرب الكونية الأولى.. أطفئ يا ربَنا حربا بين أهلِ هذا البيتِ.. واجعلنا ممن قال فيهم رسولُك الكريم «صفوةُ الله من أرضهِ الشام، وفيها صفوتُهُ من خلقِهِ وعبادِهِ».. وأَنْزِلْ على هذه الصفوة من مختلف أنحاء الوطن «مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ» نتحاور حولها.. ولا تجعلنا يا رب ممن قالَ فيهم رسولُنا الأعظم «إذا فسَدَ أهلُ الشام فلا خيرَ فيكم».. إنك مجيبٌ قدير.