تتمثل المعونة الأمريكية لمصر فى مبلغ ثابت تتلقاه مصر سنويا من الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبدأت هذه المعونة منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية فى عام 1979.. وتنقسم هذه المعونة إلى جزء نقدى صغير، فى حين أن الجزء الأكبر منها يتمثل فى مبالغ غير نقدية مشروطة بخدمات ومنتجات أمريكية معينة غالبا. وقد تحولت المعونة الأمريكية خلال فترة قصيرة من إقرارها إلى هيئة أمريكية تعمل فى مصر بتمويل من المعونة نفسها، هذه الهيئة تجاوزت كل الخطوط فى التدخل الواضح فى الشئون المصرية الاقتصادية والسياسية.. ويثار كثير من الجدل حول مدى جدوى هذه المعونة وجدوى ما قدمته للاقتصاد المصرى؟ بل إن البعض يتجاوز ذلك إلى أن المعونة كانت طريقا للضغط على الحكومة المصرية لإقرار إصلاحات اقتصادية ليست فى محلها غالبا. هذا وتعتبر هيئة المعونة الأمريكية بمصر الضاغط الأول على وزارات الاقتصاد والتخطيط المتعاقبة وأيضا وزارة قطاع الأعمال (التى تحولت إلى وزارة الاستثمار فيما بعد)، للإسراع فى برامج غير مناسبة للخصخصة وبيع القطاع العام بمبالغ لا تتجاوز 5 أو 10% من قيمته.. وقد قامت علاقات ومحافل بهذه الهيئة شارك فيها رموز النظام السابق، وأصبحوا وجوها مألوفة بها، وحصلوا على الفائدة الكبرى من هذه المعونة الأمريكية.. بشكل يمكن القول بأنها تعتبر العنصر الأول والأكثر أهمية فيما يعانيه الاقتصاد المصرى من تشويه.. فكارثة الاقتصاد المصرى الآن تتمثل فى أنه أصبح اقتصادا بلا أصول حقيقية فى ظل انتهاء طابور البيع العشوائى لأصول القطاع العام، أو لنقل لبيع الدولة.. والذى تتجه الجهود الرسمية الآن لإعادته. وإذا أردنا معرفة كيف تم التخطيط لبيع القطاع العام، فينبغى العودة للوراء قليلا إلى فترة بداية التسعينيات، عندما تم إعداد برامج الإصلاح الاقتصادى والتكييف الهيكلى، وهذه البرامج أديرت تحت إشراف مباشر من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى.. وفى اعتقادى بمساعدة لويجستية من هيئة المعونة الأمريكية بمصر. المهم أنه تم البيع وبلغت حصيلة بيع شركات القطاع العام المصرى حوالى 57 مليار جنيه فقط.. والغريب أن هذه الحصيلة المتدنية جاءت لعدد 115 شركة حكومية.. وبلغ متوسط بيع الشركة الواحدة حوالى 496 مليون جنيه، وهى قيمة لا تعادل قيمة أراضٍ ومخازن كانت تمتلكها غالبية الشركات المصرية.. ناهيك عن خطوط إنتاجية وصناعات كثيرة ومتعددة.. فأكبر شركات للأسمنت والحديد والغزل والنسيج والأدوية وبعض البنوك (قلاع صناعية) تعرضت للبيع بقيم لا تعادل حتى قيمة إيراداتها السنوية أحيانا.. وأكبر دليل على ضآلة وفساد بيع شركات القطاع العام، هو أن كثيرا من هذه الشركات المبيعة تحولت قيمتها الحقيقية الآن وبعد مرور سنوات قليلة على شرائها إلى عشرات المليارات من الجنيهات، ولنا فى حجم الأرباح السنوية لشركات أحمد عز خير مثال.. وتوقعاتى الشخصية للحصيلة المفترضة لبيع هذه الشركات كان يفترض ألا تقل عن 500 600 مليار جنيه حينذاك.. ولو أردنا استرداد قيمتها الآن، فلنا أن نعلم أن قيمتها الحالية تتجاوز حوالى 1500 مليار جنيه على أقل تقدير، أخذا فى الاعتبار الزيادة فى معدل التضخم وتراجع قيمة الجنيه والفوائد التى حققتها هذه الشركات خلال هذه الفترة. المهم أن المعونة الأمريكية لعبت دورا فاعلا فى برامج ومشاريع بيع القطاع العام، حيث إنها كانت تربط دعمها للقطاعات الاقتصادية بضرورة إصلاحها، ومفهوم الإصلاح تم ترجمته بمفهوم وحيد، وهو البيع والتخلص من الأصول الخاسرة والشركات التى كانت تشكل عبئا على الميزانية المصرية.. وقد كانت الحكومة المصرية تقتنع بكل سهولة بنصائح هيئة المعونة تحت شعار رفع الكفاءة فى إدارة مرافق الدولة، أخذا بمبدأ رفع الدعم الحكومى وتحرير القطاعات الاقتصادية، وتخفيف العبء على ميزانية الدولة.. وقد كان من المخطط أن يتم استخدام حصيلة هذا البيع فى إيجاد صناعات مصرية جديدة.. ولكن التساؤل إذا أرادت الحكومة إنشاء صناعات جديدة، فألم يكن من المجدى لها الحفاظ على الصناعات الحالية؟ باختصار، على مدى الواحد والثلاثين سنة الماضية، تشير كل تقارير هيئة المعونة الأمريكية إلى أنها قدمت لمصر حوالى 28 مليار دولار فى شكل مساعدات متنوعة الشكل.. ورغم الاعتراف بأن هذه المعونة كانت تقدم بعض الخدمات المهمة بعض الشىء لمصر، مثل برامج الأمومة والطفولة، وبرامج تنمية المرأة، وهى مجالات كان يصعب على الحكومة المصرية الاهتمام بها فى ضوء ميزانياتها المتواضعة وفى ضوء وجود أولويات أخرى أكثر أهمية، إلا أن المعونة الأمريكية ككل لا يمكن لأى اقتصادى أن يلمح فى أوجه تخصيصها بوادر تنمية حقيقية لمصر أو للاقتصاد المصرى.. فعلى سبيل المثال مصر كانت فى حاجة ماسة وقوية للقمح، فلماذا لم توجه المعونة لزراعة واستصلاح أراضٍ للقمح؟ أيضا مصر كانت فى حاجة ماسة لقطاع صناعى قوى يخدم ويخفف العبء على ميزان الواردات، فلماذا لم توجه المعونة لإنشاء صناعات تقنية متقدمة؟ للأسف نسبة 80 إلى 90% من قيمة المعونة على مدى الثلاثين عاما الأخيرة وجهت إلى جوانب مجالات غير استراتيجية لمصر، وغير مهمة لتنمية اقتصادية حقيقية للاقتصاد المصرى.. وركزت هيئة المعونة على تخصيص الجزء الأكبر من المعونة على الانفاق على مرافق وموظفى المعونة نفسها بمصر، وندواتهم وفاعلياتهم، ثم تركز الجانب الأكبر الآخر فى استثمارات أمريكية بمصر، وهنا يختلط مفهوم المعونة بالاستثمار، أى أن الولاياتالمتحدة تحصل على مقابل من هذه الاستثمارات وتعتبر مالكة لهذه الاستثمارات.. ثم تأتى المعونة الفنية، وهى الشكل الغامض للمعونة، فهى لا تقدم نقودا أو معونة مالية، بقدر ما تقدم معونة فنية لإصلاح التعليم والصحة وإدارة المياه والزراعة والبيئة والموارد الطبيعية، بالإضافة إلى الديمقراطية والمجتمع المدنى. وبالطبع نحن لا نحتاج إلى تقييم الإصلاحات التى قدمتها المعونة الأمريكية للديمقراطية والمجتمع المدنى بمصر، ولا إنجازاتها فى إصلاح الصحة ولا التعليم، لأنها بكل بساطة لم تقدم أى إصلاحات، بل إن الديمقراطية سارت فى منحدر تدريجى منذ التسعينيات، حتى وصلت مصر إلى سيادة نمط الرأسمالية الضيقة المتمثلة فى سيطرة بضعة عشرات من الأفراد على مقدرات الاقتصاد المصرى. فى اعتقادى أن نقاش المعونة الأمريكية لمصر الآن يعتبر أمرا استراتيجيا للثورة المصرية المباركة، وينبغى التفكير فيها جيدا، وتدارس اشتراطاتها جيدا جدا.. وإذا كنا مجبرين على الأخذ بها للظروف الصعبة التى يمر بها الاقتصاد المصرى.. فينبغى معرفة منذ البداية أن هذه المعونة تمتلك تأثيرات اقتصادية واسعة جدا وللغاية، وهذه التأثيرات لا تقف عند حدود التأثير الاقتصادى، ولكن تمتد إلى أبعاد سياسية مهمة، فهى بكل سهولة يمكن أن تؤثر سلبا على الثورة وتقوضها فى اتجاهات صعبة لا يمكن الرجوع عنها.. وليس أدل على ذلك من أن المعونة خلال السنوات الخمس الأخيرة ركزت على عمليات إعادة تغيير المفاهيم لدى الصفوة من القياديين المصريين سواء إعلاميين أو قياديى شركات أو مسئولى الحكومة، تحت شعار إعداد القادة، وهو المفهوم الذى ظهر من رحايا هيئة المعونة الأمريكية.. وقد نفذت هيئة المعونة أيضا إلى المرأة والفتاة المصرية من خلال برامج معدة خصيصا لها.. فهل هذه البرامج خدمت مصر؟ وهل هذه البرامج فعلا أدت إلى تنمية مصر؟ إن السؤال الذى يثير نفسه.. كم هى نسبة مشاركة هذه المعونة الأمريكية فيما وصلت إليه مصر من فساد وتشويه حتى ما قبل ثورة 25 يناير المباركة؟