كتب جورج سوروس فى صحيفة «تودايز زمن» التركية إنه فى عام 2010، أصبح النزاع الاقتصادى بين الولاياتالمتحدة والصين واحدا من أهم التطورات المثيرة للقلق فى العالم. فقد ضغطت الولاياتالمتحدة على الصين من أجل رفع سعر صرف عملتها، الرينمينبى، بينما تُحمِل الصين سياسة «التسهيل الكمى» الذى يتبعه بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى المسئولية عن اضطراب أسواق العملات. وفى الوقت الذى يتحدث فيه كل من الجانبين عما ارتكبه الآخر فى الماضى، فإن لدى كل منهما حججه المنطقية فى مواجهة الآخر. لم تُصَحَح الاختلالات التى سببت أزمة عام 2008. بل إن بعض هذه الاختلالات أصبحت أكثر حدة. ذلك أن الولاياتالمتحدة لا تزال تستهلك أكثر مما تنتج، وهو ما يؤدى إلى العجز التجارى. ومازال الاستهلاك مرتفعا للغاية، حيث يصل إلى قرابة 70% من إجمالى الناتج المحلى، بينما يُعتبر معدل الاستهلاك فى الصين منخفضا للغاية، حيث يبلغ 35.6% من إجمالى الناتج المحلى. وقد أصبحت الديون على الأسر الأمريكية كبيرة للغاية، وهو ما يُحتم التوجه نحو الادخار. وبالرغم من حاجة الاقتصاد الأمريكى إلى رفع مستوى الإنتاجية، فإن الشركات الأمريكية التى تحقق أرباحا عالية تقوم حاليا بادخار الأموال بدلا من استثمارها فى الوقت الذى يستهدف فيه التسهيل الكمى منع الانكماش المالى. وعلى النقيض من ذلك، يجب كبح جماح الإقراض البنكى فى الصين. لكن التمويل عبر التزامات خارج الميزانية وظهور قطاع مصرفى غير رسمى أديا إلى إعاقة الجهود الرامية إلى تنظيم عمليات الإقراض. ويشير الاقتصاد الصينى إلى احتمال زيادة التضخم بصورة مفرطة. ويمكن الحد من هذه الاختلالات من خلال استخدام الولاياتالمتحدة وسائل التحفيز المالى، وليس النقدى، وقيام الصين برفع قيمة الرينمينبى بصورة منظمة. لكن السياسة الداخلية فى كلا البلدين تعوق السير فى هذا الطريق. ففى الولاياتالمتحدة، يصر الجمهوريون الذين فازوا فى انتخابات التجديد النصفى على توسيع نطاق التخفيضات الضريبية التى أقرها بوش، وهو ما يحد من القدرة على التحفيز المالى، فى الوقت الذى من المرجح فيه ادخار تلك التخفيضات الضريبية، بدلا من استثمارها. ولهذا السبب لجأ بنك الاحتياط الفيدرالى إلى سياسة التسهيل الكمى، بالرغم من أن هذه السياسة سوف تؤدى فى الأغلب إلى تضخيم فقاعة الأصول، بدلا من زيادة الاستثمار المنتج. وترى الصين فى سياسة التسهيل الكمى مؤامرة من أجل تخفيض سعر صرف الدولار، وإجبارها على رفع قيمة الرينمينبى. أما الولاياتالمتحدة، فهى لا تفهم لماذا تصر الصين على عدم رفع سعر صرف الرينمينبى، بالرغم من أن ذلك سوف يساعد فى الحد من الضغوط التضخمية لديها. وكان الإبقاء على نظام للعملات من فئتين، وتقييم سعر العملة بأقل من قيمتها الحقيقية، سببين أساسيين فى النجاح الذى حققته الصين. وتعتبر تلك الإجراءات أكثر كفاءة مقارنة بالضرائب كوسيلة لتوجيه قسم كبير من المدفوعات نحو التصدير، الذى تتراكم عوائده فى صورة احتياطيات عملات يمكن للحكومة الصينية استخدامها بالطريقة التى تريد. وقد أصبحت الحكومة المركزية فى الصين شديدة القوة بفعل هذه السياسة، وهو ما جعلها تجذب أفضل العقول كى تسهم فى خدمتها. وهى تحبذ تحسين الميزان التجارى عن طريق الحد من القيود التجارية، وليس تعديل سعر صرف عملتها، وهو ما يرجع إلى رفضها وضع قيود إضافية على صناعات التصدير الصينية، إلى جانب اهتمامها بالحصول على التكنولوجيا الأمريكية. ويقول سوروس إن الولاياتالمتحدة تصر على مواصلة وضع القيود على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، نظرا لأنها لا تحترم حقوق الملكية الفكرية. وتريد الولاياتالمتحدة رفع أسعار الواردات الصينية، من أجل الحد من الضغوط الانكماشية وهو ما قد يضعف من الحاجة إلى سياسة التسهيل الكمى، التى تُعتبر مصدرا أساسيا للشكوى من جانب الصين . وفى الوقت الراهن، يسعى كل من البلدين إلى تبنى سياسات لا تساعد البلد الآخر، ولا تساعد اقتصاده هو. وسوف يستفيد الاقتصاد العالمى برمته إذا استمع كل من البلدين إلى الآخر ونسقا سياساتهما الاقتصادية. لكن ما يحدث هو العكس، حيث يمتد النزاع فيما يخص السياسة الاقتصادية إلى المجال الجيوبوليتيكى. أولا: أكدت الصين أن منطقة بحر جنوب الصين تعُتبر «مصلحة جوهرية»، وهو ما يعنى فعليّا اعتبار «المنطقية الاقتصادية الخاصة» ومساحتها 200 ميل، مياها إقليمية. واعترضت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون على ذلك قائلة إن بلدها لديها أيضا مصالح فى تلك المنطقة، وهو ما يثير خلافا بين البلدين حول المنطقة البحرية الآسيوية المترامية الأطراف وشديدة الأهمية. ثم تورطت الصين مع اليابان فى نزاع حول جزر سينكاكو فى اليابان ودياويو فى الصين. ولا يقدر الغربيون مدى جدية الصين فى التعامل مع هذا الأمر. ومن الناحية الجغرافية، ترتبط هذه الجزر بتايوان. وكانت اليابان قد استولت على تايوان فى عام 1895. ويرفع ذلك من أهمية تلك الصخور غير المأهولة، لتتساوى مع أهمية تايوان أو التبت بالنسبة لمبدأ «صين واحدة». ومن ثم، فقد استاءت الصين بشدة من تأييد أمريكا للموقف اليابانى. فى ظل الصعود السريع للصين وفقدان الولاياتالمتحدة لمصادر قوتها ونفوذها، أصبح الموقف خطيرا. وباستثناء الانتقال السلمى لقيادة العالم من بريطانيا إلى الولاياتالمتحدة فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، دائما ما تتضمن تحولات القوة العالمية نزاعا مسلحا. ويُعتبر تدهور العلاقات الصينية الأمريكية مثيرا للقلق بصفة خاصة، لأنه يحدث فى ظل اختلالات عالمية وانقسامات سياسية داخلية كبيرة، وهو ما يدفع كلا البلدين إلى تبنى مواقف متصلبة. فقط عن طريق المزيد من التعاون الدولى يمكن علاج الاختلالات العالمية وتجنب النزاع. لكن السياسة الاقتصادية ليست المجال الوحيد الذى سوف يستفيد من زيادة مساحة التفاهم بين البلدين. لنأخذ فى الاعتبار أفغانستان. إذ يُعد هذا البلد غنيا بالموارد المعدنية التى تحتاجها الصين. لكن الولاياتالمتحدة هى من ينفق 10 مليارات دولار شهريا على احتلال هذا البلد الذى يبلغ إجمالى الناتج المحلى السنوى لديه 15 مليار دولار فقط. وتشير الأوضاع الراهنة إلى أن الولاياتالمتحدة من المرجح أن تقلل من وجودها قبل إحلال السلام فى أفغانستان، وأن تطوّر الاستفادة من الثروات المعدنية هناك. وحيث إن الصين تُعتبر السوق الأهم بالنسبة لهذه المعادن، فمن المنطقى أن تقوم بتشجيع استمرار الارتباط الأمريكى بهذا البلد، عبر تقديم مساهمات كبيرة فى تدريب الجيش الأفغانى. وكانت الصين بعيدة النظر عندما تبنت مبدأ التنمية المتجانسة. لكنها انحرفت عنه مؤخرا. ومن الواضح أن معدل التغير هناك أسرع من قدرة القادة الصينيين على التكيف معه. فمازالت القيادة مشغولة بالاهتمام بشعبها الذى مازال الكثيرون منه يعيشون فى فقر. لكن الصين أصبحت قوة عظمى، وهو الوضع الذى يملى عليها التزامات على صعيد حماية النظام العالمى، شاءت القيادة الصينية ذلك أم أبت. عندما زار الرئيس الأمريكى باراك أوباما الصين فى نوفمبر من عام 2009، أقر بالصعود السريع للصين، وعرض الدخول فى شراكة معها من أجل حماية النظام العالمى وتطويره. لكن القادة الصينيين رفضوا العرض، وهو ما يشير إلى أن الصين مازالت تعد دولة نامية، لا تستطيع تلبية حاجة شعبها. ومن المؤسف حدوث هذا الانقسام بين البلدين، لأن تطور مستويات المعيشة فى الصين يجب أن يحدث جنبا إلى جنب مع مساهمة هذا البلد فى إقامة نظام عالمى أفضل. وفقط إذا أبدت الصين مزيدا من الاهتمام بنظرة الآخرين إليها، وجرى قبولها من بقية العالم، فسوف تستمر فى الصعود بطريقة سلمية. وتدرك القيادة الصينية أن عليها الوفاء بالحد الأدنى من توقعات شعبها، كى تحافظ على الاستقرار والسلام الداخلى. والآن عليها أن تتعلم كيف تجعل الآخرين يقبلونها. ويعنى ذلك التحول إلى مجتمع أكثر انفتاحا. ويتعين على الصين ألا تعتبر ذلك عبئا لا مفر منه، بل إلهاما للعظمة. ويعيش أى بلد أفضل لحظاته عندما يكون فى أقصى حالات الانفتاح داخليّا وخارجيّا. وعلى العكس من ذلك، عندما يتعلق الأمر بالقوة العسكرية، لن تصبح الصين مكافئا للولايات المتحدة قبل مرور بعض الوقت. وإذا استمرت التوجهات الحالية، فمن المحتم قيام الصين بتخصيص نصيب أكبر من مواردها للجيش، على حساب السكان بشكل عام، وهو ما يزيد من عجز القيادة الصينية على تلبية توقعات الشعب. يختم سوروس مقاله قائلا إنه فى تلك الحالة، من المرجح أن يكون الرخاء الحالى مجرد رخاء مؤقت. وسوف يسعى جيران الصين القلقون إلى الانضواء تحت جناح النسر الأمريكى، مما يُضخم من الميزانية العسكرية الأمريكية، التى تُعتبر حاليا أكبر مما يجب. وإذا لم تُبذل جهود متعمدة من أجل تحقيق درجة أكبر من التفاهم بين البلدين، فسوف يواجه العالم أوقات مضطربة فى عام 2011 وما بعده.